درج مبديا
يتابع الأردنيون بحذر ملحمة صعود الشرع من صفوف المقاتلين السلفيين الجهاديين الى رجل دولة يتكلم بصوت هادئ ويظهر قدرة واضحة على التعامل مع المتغيرات بواقعية محسوبة مدعومة بقدرة على اتخاد قرارات جريئة.
يخشى مسؤولون عرب ومنهم أردنيون، انتقال عدوى أحمد الشرع عبر الحدود، لتعيد إشعال حراك شعبي يطالب بإصلاحات سياسية عميقة، فيما ينصبّ الجهد الرسمي على التحضير لمواجهة صفقة دونالد ترامب المجهولة حيال القضية الفلسطينية وإخراج المملكة منها بأقل الأضرار.
وفي حال نجح الشرع في تطبيق وعوده حيال “سوريا الجديدة”، قد يغدو نموذجاً في المنطقة لنظام سياسي جديد شبيه بنظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وصل إلى السلطة على رأس حزب إسلامي، ثم حافظ على علمانية الدولة بموجب الدستور، أقلّه إلى اليوم.
تركيا اليوم صاحبة الحظوة والنفوذ في سوريا الجديدة لأنها تبنّت الشرع، بحسب ساسة وديبلوماسيين. وهي ترسم ملامح المرحلة المقبلة والهوية السياسية للبلاد وشكل النظام قيد التبلور بعد نصف قرن من حكم منفرد.
دومينو سياسي
من منظور عمّان، يضع تسونامي دمشق المزلزل صانع القرار مجدداً أمام هواجس تمدد نسخة متطرفة من الإسلام السياسي؛ وفي البال هيمنة الفصائل التكفيرية المسلحة على تخوم حدوده الشمالية جنوب سوريا في منتصف العقد الماضي.
وثمة شكوك في جوهر الانعطافة الظاهرة لدى حكام دمشق الجدد في ما إذا كانت تكتيكية الى حين الاستحواذ على السلطة، أم استراتيجية على درب إعادة بناء الدولة على أسس مدنية جامعة في الجارة الشمالية.
وقد يقف صانع القرار أمام خيارات صعبة في التعاطي مع جماعة الإخوان المسلمين العابرة للحدود، التي تتداخل أيديولوجيتها مع فصائل سورية جهادية تستند في عقيدتها إلى الرسالة الإخوانية ونسختها المتشددة المنبثقة من فكر سيد قطب.
فهل يطرأ تحول في العلاقة الجدلية محلياً في حال سعى إخوان الأردن الى الاستثمار في صعود نجم الإسلام السياسي في دمشق، على غرار ارتفاع نبرتهم لدى حكم التنظيم الأم قصير الأمد في القاهرة بين 2011 ومنتصف 2013. في ذلك الوقت، جفل الأردن الرسمي من نبرة التحدّي الكامنة في خطاب الجماعة وسعى إلى تحجيمها على الساحة الوطنية.
تحالف وشكوك
قبل التحول في دمشق، تأرجحت العلاقة بين السلطة وإخوان الأردن على مدى ثلاثة أرباع القرن بين الشراكة في مواجهة اليسار (1950-1980)، الاحتواء الناعم والخشن والحياد السلبي. وأبقت الحكومات “شعرة معاوية” مع الإخوان المسلمين وذراعها السياسية جبهة العمل الإسلامي، ورفضت ضغوطاً إقليمية لإقصائها وتصنيفها ضمن لوائح الإرهاب، بحسب معلومات غير معلنة.
وهكذا حصدت ذراعها السياسية وحلفاؤها أعلى عدد من مقاعد مجلس النواب في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في أيلول/ سبتمبر الماضي.
لكن ماذا بعد زلزلة دمشق؟
يتابع الأردنيون بحذر ملحمة صعود الشرع من صفوف المقاتلين السلفيين الجهاديين الى رجل دولة يتكلم بصوت هادئ ويظهر قدرة واضحة على التعامل مع المتغيرات بواقعية محسوبة مدعومة بقدرة على اتخاد قرارات جريئة.
الباحث في الحركات الإسلامية حسن أبو هنية يرى أن الشرع “يخلق أمراً واقعاً جديداً في المنطقة قد يحمل تأثيراً على شباب الأردن وجيل الإسلاميين المحافظين بحكم الجوار والعلاقات الديمغرافية أكثر بكثير من التأثير على سكان دول أخري عربية مثل المغرب مثلاً”.
وفي مقابلة مع موقع “درج”، يقول أبو هنية: “ما يقدمه الجولاني الذي تحوّل مباشرة الى أحمد الشرع، نموذج جديد حي لقائد يتمتع بقدرة على التكيف والبراغماتية؛ قائد يستطيع خلع وجه الجولاني ولبس وجه الشرع ويمضي في خلع العمامة ولبس “الكرافات” بحسب الحاجة”.
ويتوقع المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية “ألا يكون له تأثير كبير على الأردن” الذي يواجه أزمات مركبة من فقر، بطالة وأوضاع معيشية صعبة مقرونة بفساد ومحسوبية وقيود غير معهودة على الإعلام المستقل.
الى ذلك، يقول أبو هنية إن الشرع “استطاع أيضاً بناء سردية متعلقة بالمواجهة مع الروس والميليشيات الإيرانية مع وجود الصدع الطائفي السني – الشيعي على مدى عقود”.
ويخلص إلى أن الشباب يتعلقون عادة بقيم الانتصار ومفاهيمه والإنجاز والقوة والبطولة عند اختيار أمثلة لمصادر إلهام؛ وهي حال تعلق البعض بشخصيات اختارت درب المقاومة كزعيمي حركة حماس الفلسطينية يحيي السنوار وحزب الله اللبناني حسن نصر الله.
يشاطر أبو هنية في الرأي برلماني يساري أردني فضل عدم ذكر اسمه لحساسية الموضوع. إذ يتوقع في مقابلة مع موقع “درج” أن تدخل المنطقة في ما يسمى بـ”ربيع عربي ثانٍ لإعادة إنتاج تجربة محمد مرسي في مصر لكن بشكل جديد في سوريا”.
ويقول البرلماني: “نحن أمام تجربة جديدة في الإقليم. تجربة الإسلام السياسي التي ضُربت في مصر تعود إلينا مجدداً لكن بشكل مختلف تماماً”.
لكن الشك يساور البرلماني المخضرم – حال مراقبين كثر – يساورهم “بشأن قدرة الشرع على الاستمرار ببراغماتيته من دون حدود” قبل أن تنقلب عليه بعض الفصائل المتشددة أو يتحرك سوريون مستبعدون ضده في حال شعروا أن دولتهم تُخطف من جديد.
مثال ذلك المواجهات الخطيرة الدائرة بين القوات المنبثقة من فصائل المعارضة المسلحة – في مقدمها هيئة تحرير الشام – وفلول الأسد في معاقل الطائفة العلوية التي تشعر بالهزيمة والتهميش بعدما تخلى عنهم بشار الأسد. وقد تتمدد مثل هذه المواجهات إلى مناطق أخرى. هناك سلاح في كل مكان، ودول إقليمية ومؤسسات استخباراتيه أجنبية قادرة على توظيف إغراءات المال لتعطيل المسار من خلال استثمار حال عدم رضا شعبي إن توسعت دائرة المواجهات.
البرلماني الأردني يتوقع “صداماً حتمياً بين أعوان الشرع القادمين من الريف ومعظمهم لم يدخل دمشق إلا بعد إطاحة الأسد، وحواضر بلاد الشام التي أدارت مناطقها لعقود وتدرك تنوع مجتمعاتها. من يعرف سوريا وشعبها وطريقة الحياة المحافظة اجتماعياً لكن المنفتحة على الآخر، يعرف أنها لن تقبل بنظام ديني مستبد آخر يفرضه الأتراك”، يشرح البرلماني الأردني.
بين الأوساط العلمانية مخاوف من احتمال “دخول الشرع في مواجهة حتمية مع سائر مكونات الشعب السوري وأقلياته العرقية، الدينية والمذهبية، في حال شعرت الأخيرة أنها مستبعدة من هيكلية سوريا الجديدة وألوانها”.
الشرع يتصرف حتى الآن وكأنه الرئيس المقبل وليس قائد مرحلة انتقالية. يفرض نفسه عبر شرعية القوة. يقابل زواره من المسؤولين العرب والأجانب في القصر الرئاسي لبشار الأسد. يجلس على المقاعد الخشبية ذاتها المزخرفة والمطعمة بالصدفيات التراثية التي كان يجلس عليها خصمه القديم عند استقبال الوفود.
يردد أمام زواره ما يريدون سماعه حيال المستقبل القائم على التعايش والمساواة ونبذ الإرهاب ومنع عودة الميليشيات الإيرانية. هدفه الأول والأخير اجتياز شروط رفع العقوبات الأممية عنه وعن الهيئة ورفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية لكي يستطيع تحسين الوضع المعيشي والمالي في سوريا المنهارة. ولذلك، يبدي استعداداً لقبول شروط الغرب الذي قرر إمهاله بعض الوقت: الى حين انتهاء مدة الحكومة الانتقالية مطلع نيسان/ إبريل المقبل.
ليس كل ما يلمع ذهباً
في إشارات عكسية، اختار الشرع كل من يعمل في حكومته الانتقالية من لون واحد بدلاً من تعيين وزير انتقالي من كل محافظة سورية لضمان التعددية. تصريحه الأخير بأن صوغ دستور جديد قد يستغرق ثلاث سنوات وإمكانية إجراء الانتخابات بعد أربع سنوات، أقلق المتابعين.
المرحلة الانتقالية حساسة جداً، ومستقبل سوريا مفتوح على كل الاحتمالات. لذلك، يراقب الأردن الرسمي المشهد وينفتح تدريجياً في الوقت ذاته على الشرع لحماية مصالحه في المرحلة الحالية، وأهمها ضمان عدم عودة “الإرهابيين” الى الحدود الشمالية.
القصر والإخوان
المسلمون في الأردن يؤكدون أن نجاح أي تجربة سياسية في المنطقة – ومنها سوريا – يجب أن يدفع الجانب الرسمي لتعزيز الحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة والتقدم بخطوات عملية نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي، بدلاً من أن تكون “مصدراً للقلق”. وتعلن الجماعة أن أمن الأردن واستقراره أولوية “لنا جميعاً”، مكررة موقفها بضرورة الإصلاح السياسي كبوابة للإصلاح الشامل ضمن الأطر الدستورية.
الناطق الرسمي باسم الجماعة معاذ الخوالدة يقول لموقع “درج”، إن “قوة الأوطان تبنى بالتفاهمات الوطنية والشراكة بين جميع مكوناتها وليس على قاعدة الإقصاء وضعف الثقة المتبادلة”.
ويضيف الخوالدة: “بدلاً من القلق من نجاح تجربة سياسية أو ديمقراطية في أي دولة، سواء في سوريا، أو غيرها، ينبغي أن ينظر إليه من زاوية تحقيق مصالح الشعوب وحقوقها”، لافتاً إلى “أن الجماعة تحترم إرادة الشعوب في تقرير مصيرها وتدعم حقوق الشعب السوري ووضع حد لمعاناته وتحقيق تطلعاته في الحرية والعدالة والاستقرار”.
المشهد في الإقليم
مسؤولون عرب على اطلاع على المشهد الأمني في المملكة ومصر ودول أخرى فيها وجود قوي للإخوان، ينظرون إلى تركيا على أنها قاطرة الجماعة كونياً، ويرون أن التيارات السلفية المحافظة والتابعة للوصفة “الإردوغانية” تجنح عادة صوب الفكر التكفيري كلما اقتربت من فرص الاستحواذ على السلطة.
مثال على ذلك تصرّف الإخوان المسلمين حين اعتلوا السلطة في مصر في أول انتخابات حرة بعد رحيل نظام حسني مبارك. فبعد فوزه بكرسي الرئاسة، أقصى محمد مرسي القادم من رحم الإخوان القوى الأخرى وحاربها قبل أن ينقلب الجيش على الإخوان مدفوعاً بزخم الشارع ويعيّن رئيساً من مرتبات القوات المسلحة لفرض سياسة الأمر الواقع في مصر التي تفهمها الدولة العميقة.
اتجاه معاكس
هناك احتمال أن تقود دولة الإمارات – الإخوان المسلمين وأجندات الإسلام السياسي – جهداً على الأرض لتعطيل مشروع الشرع من خلال تمويل وتحريك فصائل غير راضية عنه، بحسب أحد المسؤولين. وفي البال سوابق مماثلة في إحباط تجارب التيار السلفي في الوصول الى الحكم أو الاستمرار فيه: السودان، ليبيا، مصر وتونس، حيث عملت أبو ظبي ضد المد الإسلامي المدعوم من تركيا في تلك الدول.
محطات المد والجزر
العلاقات بين الإخوان المسلمين في الأردن والنظام مرت في حالات مد وجزر عدة مند نشأت في الأردن كهيئة خيرية في 1946. لعقود استخدمت السلطات الأردنية ورقة الإخوان ضد المد اليساري والشيوعي، الذي كان يشكل مصدر تهديد للنظام. وبعد استعادة الحياة الديمقراطية عام 1989 للمرة الأولى منذ احتلال إسرائيل الضفة الغربية في 1967، فاز الإخوان بـ22 من 80 مقعداً نيابياً. وفي خطوة نادرة، شاركوا في حكومة مضر بدران مطلع تسعينيات القرن الماضي لتمتين الجبهة الداخلية مع بدء الحرب على العراق، حليف الأردن الرئيس آنذاك ، وتنامي الضغوط الأميركية للانضمام الى التحالف الدولي.
استلم الإخوان ست حقائب خدمية آنذاك وشرعوا في تسريع محاولات التغيير.
في وزارة التنمية الإسلامية مثلاً، منع الوزير النساء من السفر لتمثيل الوزارة في مؤتمرات دولية. أصر على استخدام أجندة منفصلة لتسجيل الحضور والمغادرة بين الرجال والنساء، ومنعهم من الوقوف في صف مختلط.
يقول مسؤولون الآن إن تركة الإخوان في وزارة التربية والتعليم لا تزال تجثم على مناهج التعليم التي أسلموها خلال العقود الخمسة الماضية، ما ساهم في تنامي التيار السلفي المتشدد في المملكة.
وخلال الحراك الأردني في 2011 على وقع عدوى الربيع العربي، قاد التيار الإسلامي الشارع الأردني المطالب بتغيير الدستور وتحديد صلاحيات الملك وإجراء إصلاحات سياسية ومحاربة الفساد ومحاكمة رموزه. على أن شعاراتهم خرقت خطوطاً حمراً ومسّت الملك وأسرته مباشرة. وبينما شاركوا في بعض الانتخابات عبر ذراعهم السياسية، قاطع الإخوان جولتي انتخابات خلال العقدين الماضيين بسبب خلافات مع الحكومات المتعاقبة.
في الانتخابات الأخيرة، حصدت الجبهة ثلث أصوات المقترعين وأصبحت الكتلة الأكبر في مجلس النواب ، بعكس توقعات الرسميين. وعزّزت مكاسبها الشعبية عدوان الاحتلال على غزة. ولم تطبق الحكومة قراراً صادراً عن محكمة التمييز قبل أربع سنوات اعتبر جماعة الإخوان منحلّة.
قوى صاعدة
فاز حزبان محافظان جديدان قادمان من رحم السلطة بثمانية مقاعد فيما خسرت سائر التيارات. حزب الميثاق – الذي حصد خمسة مقاعد- استقطب نوابا مستقلين ليصبح الكتلة الأكثر عدداً فكسر شوكة كتلة الجبهة، ما سمح بفرض سيطرة المحافظين على رئاسة المجلس وغالبية اللجان التي تنافس عليها أعضاء في الحزب الإسلامي.
أثناء جلسة الثقة بحكومة جعفر حسان، ظهر ضعف الجسم النيابي وخبرته في المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية. عدد من النواب صوتوا ضد توجهات أحزابهم. حزب جبهة العمل كان الأكثر تأثيراً لأن نوابه التزموا بموقف الجبهة وحضروا جميع الجلسات.
في خلفية المشهد المحتقن، تنامى خيار “المقاومة” عند معظم الأردنيين بسبب استمرار حرب الإبادة والتجويع في غزة واستباحة الضفة الغربية وتدمير لبنان وشكوك في أن الإصلاحات السياسية الأخيرة لم تعكس نوايا حقيقية للتحديث. ونجاح الشرع قد يعطيهم أملاً جديداً بالصعود إلى السلطة.