الغد
تحت ستار الانشغال بالحدث السوري ونسيان محنة الفلسطينيين، تناقلت وسائل الإعلام بالأمس الأخبار المؤسفة عن اشتباكات بين الفلسطينيين والفلسطينيين في مخيم جنين المحتل المقاوم. وحسب الأخبار، قتلت قوات «السلطة الفلسطينية» أحد قادة «كتيبة جنين» في «سرايا القدس»، في اشتباكات مع المقاومين في محيط المخيم. وقالت المصادر إن يزيد جعايصة، المطلوب لجيش العدو قُتل برصاص أجهزة أمن السلطة صباح السبت، وتحدثت عن عدد من الإصابات بين المواطنين بينهم طفلان.
وقبل ذلك، أقرت السلطة الفلسطينية بمسؤوليتها عن مقتل الشاب ربحي الشلبي (19 عامًا) في مدينة جنين خلال اشتباكات اندلعت الأسبوع الماضي مع المقاومين الفلسطينيين، وفق موقع «الجزيرة» الذي أضاف: «وتندلع عادة اشتباكات بين مقاومين وعناصر الأمن الفلسطيني في مدن شمال الضفة، خاصة في جنين وطولكرم، تزامنًا مع الاجتياحات المتواصلة لقوات الاحتلال واعتداءات المستوطنين والإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة».
ولا تعتقل أجهزة أمن السلطة سُرّاقًا أو نهّابين أو بلطجية يروّعون مواطنيهم، وإنما تعتقل مطلوبين لسلطات الكيان الاستعماري. ومن منظور السلطة الفلسطينية، تُعتبر مقاومة الاحتلال السبب الرئيس لنزع السلم الأهلي، بتعريفها، لأنه يستفز الاحتلال ويجعله يستهدف الفلسطينيين «الآمنين». (يلاحَظ الاستخدام المبتكر لوصف «آمنين» في السياق الفلسطيني، حيث يُطلق، مثلًا، على العائلات الفلسطينية تحت القصف في غزة، اللاجئة إلى مدرسة، أو «منطقة آمنة» حددها العدو لتجميع الفلسطينيين وقصفهم. هذا الوصف تجنٍّ على حقيقة أنه ليس هناك فلسطيني «آمن» منذ 1948).
وإذن، الفلسطينيون تحت الاحتلال في الضفة، مع التوسع الاستيطاني المذهل في عهدة «السلطة»، وهجمات المستوطنين عليهم والاستيلاء على ممتلكاتهم تحت حراسة جيش الاستعمار، والمشروع المعلن لتهجيرهم الحتمي من الضفة، مع غزة، والأهم: إنهاء وجودهم الفيزيائي والتاريخي كشعب، كحتمية وجودية لبقاء الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، كل هذا في نظر السلطة «أمن» يستحق من يهدده الاعتقال، بل القتل– شرط أن يكون فلسطينيًا.
حسب «الجزيرة»: «تعتقل أجهزة السلطة في الضفة المحتلة- وفق بيانات حقوقية- أكثر من 150 مواطنًا فلسطينيًا، بينهم مقاومون ومطاردون من قِبل الاحتلال وطلبة جامعات وأسرى محررون ودعاة وكُتاب وصحفيون، وترفض الأجهزة الإفراج عنهم، رغم صدور قرارات قضائية بالإفراج عنهم أكثر من مرة».
وفي المقابل، لا تعتقل السلطة مستوطنًا مجرمًا واحدًا من الذين يستهدفون «أمن» الفلسطينيين «الآمنين»، ويقلعون زيتونهم ويسرقون مواشيهم، ويحطمون ممتلكاتهم، ويقتلونهم ويحرقونهم أحياء مع بيوتهم. ولا تقتل قوات السلطة جنديًا واحدًا من جيش الاستعمار الذي يجول في عاصمة «السلطة» نفسها ويعتقل رعايا «الآمنين» في محيط «المقاطعة»، بينما تتبخر قوات أمن السلطة فجأة في الأثير.
يصف الناطق الرسمي باسم قوى الأمن الفلسطيني، أنور رجب، الحملة الأمنية على مخيم جنين بأنه «خطوات جديدة تهدف لحفظ الأمن والسلم الأهلي، وبسط سيادة القانون في مخيم جنين». والسؤال هو: أي قانون؟ وقانون مَن؟
لن تزعم السلطة الفلسطينية بأنها تملك أي صلاحية لوضع أي قوانين في الضفة أو حتى في بنيتها الخاصة. ولا يمكن حتى بيع صلاحية وصف «سلطة» على أداء السلطة في الضفة المحتلة– إلا بقدر ما تعني الكلمة، في السياقات الاستعمارية، سلطة محلية تعمل بموافقة الاستعمار وإشرافه ولتطبيق قوانينه وبالتعاون معه. ليس هناك استعمار على الإطلاق يسمح بقيام أو بقاء سلطة ثورية تحررية وطنية يكون هدفها– وعملها- طرده أو إحباط مشروعه. هذه بديهية في الاستعمارات التقليدية. فماذا عن الاستيطانية؟!
يوحي توقيت تحرك السلطة «العسكري»، المخصص حصرًا لمواجهة فلسطينيين، بأن السلطة تستثمر في الضعف الذي ألحقه الاستعمار بالمقاومة في غزة عن طريق الإبادة الجماعية، للإجهاز على أي مقاومة عسكرية متبقية في الضفة الغربية. ويقرأ مراقبون هذا التحرك في هذا التوقيت على أنه رسالة إلى دونالد ترامب؛ كوسيلة السلطة لتأهيل نفسها أمام ترامب العائد كقوة قادرة على ضبط الفلسطينيين، وتجريدهم من السلاح، وفرض «سيادة القانون» أفضل ما يكون، كما تُحدده سلطة الاستعمار. و»التأهيل» بهذا المعنى هو الاستعداد لتأدية الدور المقرر لقيادة «الحكم الذاتي»، الخيالي بكل معيار، حتى على دناءته كما هو، في مخطط إنهاء القضية الفلسطينية.
وفق أي منظور، لا يمكن أبدًا تبرير استخدام «القوة العسكرية»؛ هذه البنادق الحزينة البائسة التي منحها الأميركان، بموافقة الكيان، لغايات لا يمكن أن تكون غير مشبوهة في السياق الفلسطيني- ضد الفلسطينيين. ولم تكتف «السلطة» بالوقوف موقف المتفرج على إبادة مواطنيها في غزة، وهجمات المستوطنين وجيش الاستعمار على مواطنيها في الضفة، وإنما أدانت المقاومة علنًا ووصفتها، ضمنًا، بالإرهاب. كما منعت أي مظاهر احتجاج شعبية في الضفة الغربية كفعل تضامن مع فلسطينيي غزة، إذا كانت تؤمن حقًا، كما تقول، بالمقاومة الشعبية السلمية. وكانت إدانة المقاومة الفلسطينية، لأي سبب يمكن اختراعه، ناهيك عن عدم استعمال البنادق التي في عهدة السلطة للدفاع عن أمن الفلسطينيين المزعوم في الضفة، مواقف غير مشرِّفة على الأقل.
في الحقيقة، لا بد من الثناء على موقف المقاومة الفلسطينية وضبطها المسؤول للنفس بينما تمتلك الأدوات العسكرية والتنظيمية للرد. لم يكن من الصعب على هذه القوى، التي تحدّت العدو الوحشي وآلمته، أن تستهدف رموز «السلطة» وقياداتها بالاغتيالات الانتقامية، أو أن تلحق الضرر بمؤسسات السلطة وأدواتها. لكنها اكتفت دائمًا بإصدار البيانات والاستنكارات اللفظية، من دون الانجرار إلى اشتباك أهلي لا يمكن أن يصب إلا في صالح هزيمة الفلسطينيين، كما تفعل «السلطة» الآن.
ينبغي أن يكون دم الفلسطيني على الفلسطيني حرام– إلا الخائن والمتعاون مع الاستعمار، والبلطجي. هذا هو المبدأ الذي نادرًا ما يخونه العدو، الذي لا يمكن أن يقتل مستوطنًا لأنه اعتدى على فلسطيني، ناهيك عن إدانته. وعادة ما يحتفل مجتمع المستعمرين بمثل هذا كبطل. لا نريد أن نكون وحشيين مثل عدونا، لكننا لن ندين ونقتل المقاومين من مواطنينا، مهما اختلفت رؤانا لطرق خوض صراع تحرري مع عدو بائن. ولن نقمع اجتهاد هؤلاء المقاتلين بالسجن– ناهيك عن القتل الذي لا بد أن يكون إجراميًا وبشعًا ومُدانًا وفق أي معيار وطني شريف. وهذا مهم بشكل خاص لدى ثبات أن وسائل «السلطة» كانت فشلًا ذريعًا عندما يتعلق الأمر بـ«أمن» الفلسطينيين، كشعب وقضية. وقد كتبت مجلدات عن فداحة هذا الفشل.
كان ينبغي أن لا تنجرف «السلطة»، المستهدفة علنًا والمذمومة قطعًا حتى بما هي، إلى القيام بالعمل القذر جدًا نيابة عن سلطات الاستعمار. لم يتوقف عسكر العدو الوحشيون لحظة عن اجتياح مخيمات ومدن الضفة وقتل وأسر الفلسطينيين، وهم ليسوا عاجزين عن الاستمرار. وما كان ينبغي أن تضع السلطة قوتها معهم بدعوى حماية الفلسطينيين بقتل فلسطينيين. ولكن، يبدو أن جنود العدو أصبحوا يتكلفون خسائر أثناء التوغلات، بالتعرض إلى الرصاص أو تفجير المركبات بالألغام المرتجلة، وسيسعدهم أن تتحمل قوات السلطة هذه الخسائر وسواد الوجه نيابة عنهم – سواء بمقتل عناصرها بيد فلسطينيين فداءً للجنود، أو بقتل عناصرها فلسطينيين نيابة عن الجنود. وحسب الأخبار بالأمس، اشتبك المقاومون في أماكن أخرى، بما يهدد باندلاع الحرب الأهلية النهائية التي ستكون يوم قيامة ونهاية الفلسطينيين. هذه هي الخسائر التي تتطوع «السلطة» بتكلفها بالهجوم نيابة عن جنود العدو. ويا لها من خسائر!