عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Sep-2019

مبدعون مصريون يختلفون حولها ويؤكدون: تمنحنا مساحة رحبة من الحرية كتابة السيرة الذاتية... صراع الممنوع والمرغوب

 

القاهرة -الشرق الاوسط-  آلاء عثمان - لا تزال كتابة السيرة الذاتية في الخطاب الثقافي العربي تراوح ما بين المرغوب والممنوع، وذلك تحت وطأة الأعراف والتقاليد التي يفرضها الإرث الاجتماعي والديني والسياسي، ما جعل هذا النوع الأدبي يتعثر تحت مظلة الرقابة المجتمعية، والمحاسبة التي قد تصل إلى ساحة القضاء وأسوار السجن.
 
في هذا التحقيق آراء لروائيين ونقاد وقفوا على عتبة السيرة الذاتية في كتاباتهم؛ لكنهم يختلفون ربما شكلياً حول توصيف هذه الكتابة، ومع ذلك يتفقون على أنها توفر للمبدع مساحة أرحب من الحرية والابتكار.
 
- رواية الذات
 
في البداية يقول القاص الروائي سيد الوكيل: «من المهم أن ندرك الفارق بين كتابة السيرة الذاتية ذات الطابع التوثيقي، ورواية السيرة الذاتية». ويُعرف الاثنين قائلاً: «الأولى مهما سربت بين صفحاتها من حكايات، فستظل في سياق الحقائق، أما الثانية، فهي ذات طبيعة تخيلية مراوغة ومخاتلة؛ بحيث تباغت الكاتب نفسه بما لا يعرفه، مهما أشار إلى حقائق أو وقائع وشخصيات معروفة. ذلك لأنها تكتب الذات فعلاً وليس الشخصية، بمعنى أنها تنظر إلى ما وراء المرئي في حياتنا».
 
ويعتقد الوكيل أن «كتابة الذات تحتاج إلى قدرة خارقة، وأنه ليس بوسع أي كاتب أن يكتب رواية سيرة ذاتية، ما لم تكن حياته الشخصية ذات طبيعة درامية. لهذا فالكاتب يغوص إلى البعد الدرامي في حياته. إنه الجانب غير المرئي من جبل الجليد حقاً، ولا سبيل إلى رؤيته بغير الكتابة الأدبية؛ حيث لا انشغال بشيء آخر غير الإمساك بالذات، لا قضايا عامة ولا وقائع موثقة ولا آراء شخصية. فقط الذات التي لا يتحقق وجودها إلا بإزاحة شخصيتك لهامش الوجود، فالشخصية مجرد قناع اجتماعي، وإزاحتها يحتاج لشجاعة نادرة، وقدرة خارقة على أن تكون أنت ذاتك».
 
كتب سيد الوكيل روايتين، هما «فوق الحياة قليلاً» 1997، و«الحالة دايت» 2011. ويرى أن الواقع النقدي لم يكن مؤهلاً بعد لاستيعاب هذا النوع من الكتابة: «لقد راحوا يفتشون عن الحقائق، وما إذا كانت الوقائع حدثت بالفعل أم لا، ولكن ما يهمني أن هذا النوع من الكتابة، منحني مساحة واسعة من الحرية، ليست حرية الحكي فحسب؛ بل حرية التعبير، لتتطرق لغتي إلى مناطق مجهولة في حياتنا اليومية، وتلم بأفكار تبدو متناقضة، وأبنية سردية غير مسبوقة. لهذا فإن النقاد ولجان التحكيم لم يستوعبوا هذا التشكيل المركب، واعتبروه خارج التصنيف؛ لكني واثق بأن رواية (الحالة دايت) بالتحديد، ستظل عالقة بالذاكرة الأدبية لوقت طويل؛ لأن أحداً لا يستطيع فض لغزها. إنهم يعتبرونها من الروايات المهمة والنادرة في الأدب العربي، ولكنهم لا يعرفون لماذا!».
 
يتابع الوكيل: «كتبت بعد ذلك مجموعتي القصصية (لمح البصر)، مستفيداً من آليات إنتاج الحلم. إنها المرحلة الأعمق في كتابة الذات التي لا تظهر لنا إلا في لحظات انفلات الوعي والخدر والأحلام. وبالوعي المضمحل نفسه اعتبرها البعض مجرد تسجيل لأحلامي. الأحلام حالة من الغوص العميق في الداخل، بحثاً عن الصندوق الأسود الذي بداخل كل منا. لهذا فكتابة الأحلام ليست سهلة أبداً؛ بل مؤلمة، ويكفي أن أحداً لم يكتبها من قبل سوى نجيب محفوظ، وهو يعاني هسهسات فترة النقاهة إثر محاولة اغتياله». ويختتم بالقول: «يستطيع أي كاتب أن يقول لك: أنا أكتب ذاتي؛ لكنه لم يلتق بذاته يوماً، ولا يعرف ما الذات. هنا تكمن المشكلة».
 
- مجرد تحايل
 
من ناحيته، يرفض الروائي إبراهيم عبد المجيد، مصطلح السيرة الروائية، ويقول: «كتابة ما تسمى السيرة الروائية، هو مجرد تحايل على كتابة السيرة الذاتية في شكل فني، لا يضع الكاتب في مواجهة المجتمع مباشرة. ذلك لأن كتابة السيرة الذاتية عملية صعبة في ظل رقابة المجتمع التي حولت كتب السيرة إلى كتب أشبه بالتربية الوطنية، بدلاً من الوضوح والصدق والصراحة وتعرية الذات».
 
ورغم أن عدداً كبيراً من روايات عبد المجيد، يضم أجزاء من سيرته الذاتية، مثل: «أداجيو»، و«هنا القاهرة»، و«البلدة الأخرى»، فإنه لا يطلق عليها روايات سيرة ذاتية؛ بل يعتبرها روايات محملة بتجاربه، وخبراته الشخصية في الحياة، ويقول: «كل رواية كتبتها محملة بجزء من حياتي، سواء كان جزءاً صغيراً أو كبيراً، ولكن هذا لا يعني أنها سيرة روائية، إنما هي روايات أدبية، أما تصنيف النقاد فهم أحرار فيه».
 
كما يعترض صاحب «لا أحد ينام الإسكندرية»، على ما يتردد من أن اعتماد المبدع على تجاربه في كتابة الروايات هو فقر خيال، قائلاً: «إذا لم يعتمد الكاتب على خبراته، وخبرات أصدقائه ودائرة معارفه، والناس على المقاهي، والبيئة المحيطة به، فمن أين يكتسب أفكاره للكتابة؟ الكاتب في أحيان كثيرة يكون غير مدرك لما يكتبه بصورة واضحة، ولذا كثيراً ما نجده يأخذ من واقعه ومن حياته، ثم يضيف إليها أحداثاً وشخصيات، وتصورات أخرى تختلف عن الواقع». ويستدرك عبد المجيد بقوله: «هذا الفعل عكس فعل كتابة السيرة الذاتية التي تطلب من المبدع أن يكون على وعي تام بما يكتبه؛ لأنه سوف يحسب عليه، ولذلك فهو ينتقي ما يبوح به، وما يخفيه خوفاً من الرقيب المجتمعي الذي يقف له بالمرصاد، ولهذا السبب لن تصبح لدينا سيرة ذاتية حقيقية، نظراً لتخلف المجتمعات العربية عن تقبل فكرة أن المبدع هو إنسان يخطئ ويصيب، باستثناء بعض الكتابات الحرة والجريئة، مثل السيرة الذاتية للكاتب لويس عوض».
 
- شكل مناسب
 
الروائية منى الشيمي ترى أن الحياة تحدث في صورة رواية طويلة لها عدة نهايات، أو مجموعة قصص كل واحدة مستقلة أو متشابكة بالقصص الأخرى، وتقول: «يهتدي كاتب السيرة بنفسه إلى أن الشكل الروائي هو أنسب الأشكال لكتابة السيرة، ربما لأن ما قرأناه من سير كان على شكل رواية، ولا أظن أن أحداً لم يقرأ (الأيام) لطه حسين، أو (الخبز الحافي) لمحمد شكري، أو (باولا) لإيزابيل الليندي، التي تقاطعت روايتي (بحجم حبة عنب) معها».
 
تضيف الشيمي: «إن رغبة الآخرين في تتبع حياتنا قد تدفع بعض الكُتاب إلى اللجوء لكتابة السيرة الروائية»، وتشدد على أن «فعل تلصص الآخرين وحده يجعل الحراشف والأشواك تنمو على الجسم مقاومة. وأعترف أنني تلقيت رسائل سباب على (الإيميل) من بعض من رأوا أنفسهم في شخصيات روايتي (بحجم حبة عنب)، أو حتى خمنوا أنني كتبت عنهم؛ بل إن زملاء العمل - وعلاقتهم بالقراءة تكاد تكون قاصرة على قراءة (النتيجة) لمعرفة موعد صرف الراتب - هؤلاء غامروا واشتروا روايتي لمجرد معرفتهم بأن بعضها من سيرتي الذاتية».
 
وترجع منى الشيمي اتجاه معظم كُتاب السيرة الذاتية إلى اختيار ما يريدون إبرازه، أو إخفاءه، قائلة: «الكاتب يضع رؤية أو إطاراً لكتابة خبرته منذ البداية. ما يختاره يقيم من قبل القارئ؛ هل وفق في اختيار تلك المرحلة من حياته لإبراز الرؤية أم لا؟ هذا أهم مما لو كتب مجمل حياته أو تجربته. كما أنه من الصعب كتابة حياة كاملة في رواية أو كتاب! نحن لسنا بحاجة ليد بحجم الأرض لقياس محيط الأرض. وبخصوص الصدق، بالطبع من الصعب الكتابة بصدق متناهٍ، في مجتمع تحاول الجارة فيه تخمين نوعية طبيخ جارتها من الرائحة المنبعثة في المنور».
 
وتختتم الشيمي حديثها قائلة: «ببساطة، ستتسم السير الذاتية بالصدق إذا تمتع المجتمع نفسه بالصدق».
 
- نظرة نقدية
 
ومن زاوية نقدية، تُفرق الناقدة الأدبية أماني فؤاد، بين أسباب المرأة لكتابة رواية السيرة الذاتية، وبين أسباب الرجل. وتشير إلى أسباب الأولى قائلة: «تلجأ المرأة إلى كتابة السيرة الروائية بديلاً عن السيرة الذاتية تلافياً لوضعهن كفريسة للسياق العام للمجتمع، وتلصص القراء على حياتهن على وجه التحديد، كما رأينا في (نساء في بيتي)، للكاتبة هالة البدري، التي صنعت ما يشبه السيرة الروائية؛ حيث استقدمت مجموعة من الكاتبات من التاريخ، وأجرت معهن حواراً وجدلاً حول كتابة النساء في مجتمع ذكوري، سواء في مجتمع شرقي أو غربي».
 
وأما عن الرجل، فتقول: «يمكن اعتبار السيرة الروائية للرجال (نصاً بينياً)، أي كتابة بينية، بين السيرة الذاتية والروائية، مثل (خارج المكان) لإدوارد سعيد، التي كتب فيها عن نفسه وذاته، وعن تاريخ القضية الفلسطينية، و(الاستغراب والاستشراق)، وكذلك (المفتون) لفؤاد قنديل، الذي مزج فيها سيرته الخاصة، مع مراحل متعددة من عمر الوطن، فحكى فيها عن شبابه وخروجه من القرية، وتطلعات مصر في ثورة يوليو (تموز)، وشغفه بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتهاوي الأحلام بعد النكسة، ومعاهدة كامب ديفيد».
 
وتعتقد أماني فؤاد أن كتابة السيرة الروائية هي نوع من التحايل على الواقع: «المجتمعات تفرض تابوهات (الجنس، والدين، والسياسة) على الإبداع؛ بل تعاقب الكاتب على كتابته إذا كانت محملة بنوع من البوح الصريح والجريء، وكأن الجرأة نقطة سوداء في حياة الكاتب، وهذه المحاذير المجتمعية تجعل هناك علاقة مشوهة بين الصدق وكتابة السيرة الذاتية، ولذلك يلجأ الكاتب لكتابة سيرته الذاتية في شكل روائي، خوفاً من الرقيب المجتمعي».
 
وترى أماني فؤاد أن المجتمعات العربية لن تعرف السيرة الذاتية بصدق إلا إذا تحررت سياسياً واقتصادياً وفكرياً وإبداعياً: «فبقدر ما نتحرر من التابوهات التي يعاني منها المجتمع، بقدر ما ستكون الكتابة بشكل عام، والسيرة الذاتية بشكل خاص، أكثر توهجاً، كونها تلمس المناطق الإنسانية في نفوسنا».
 
- أسباب مغرضة
 
ويرجع الناقد الأدبي ممدوح فراج النابي، اتجاه الكُتاب إلى كتابة رواية السيرة الذاتية، إلى الكذب، فيقول: «الكذب وعوامل أخرى كالنسيان، والبحث عن مساحة للبوح، جميعها كانت الدافع من وراء لجوء الكتّاب إلى رواية السيرة الذاتية».
 
ويتابع: «رواية السيرة الذاتية، باعتبار أنها تُسقط الغاية أو العهد الذي يقر به كاتبها من التزامه الصدق؛ أتاحت للكتّاب الفرصة للهروب من هذا العقد، والكتابة بكل تحرر دون أن يُتهم بأنه يكذب، فالتخييل الذي تستعيره (رواية السيرة الذاتية) من جنس (الرواية)، أتاح له قول الحقيقة وغير الحقيقة، فجميعه يندرج تحت إهاب التخييل، ومن ثم لا يُحاسب بمقاييس الصدق والكذب، أو السعي لتجميل ذاته، وإخفاء ما بها من قصور، وهنات».
 
ويرى النابي أن كاتب رواية السيرة الذاتية ليس مُلزماً بالاعتراف بكل تفاصيل حياته، وما بها من نتوءات أو أخطاء: «فالكاتب ليس ملزماً بالاعتراف بأن الأصداء السيريّة التي ترددت داخل العمل تعود على شخصيته الحقيقية، أي تطابق الهويات الثلاث (المؤلف – الراوي - الشخصية) على عكس السيرة الذاتية التي تشترط تطابق الهُويات الثلاث وفق ميثاق الفرنسي فيليب لوجون؛ خصوصاً لو أن هذه الأصداء اصطدمت بما يتنافى مع قيم المجتمع التي يُشهرها حُراس الفضيلة، فيكون سهلاً للكاتب التخفي خلف قناع (رواية السيرة الذاتية) لتمرير ما يحتاج إلى تمرير، وهو ما يتيح له أن يحلق بعيداً عن دائرة التابوهات أو خرقها، أو أن يقع في دائرة المحظور أو المنهِي عنه».
 
ويشير النابي إلى نقطة رواية السيرة الذاتية؛ خصوصاً التي تكتبها المرأة، كقناع تستطيع أن تمرر منه كثيراً عن ذاتها، باستعارتها ذاتاً بديلة أو شخصية متخيلة. ويرى أنه في الغرب وصف هذا العصر بعصر الاعترافات، وفي عالمنا العربي ثمة تطور ملحوظ، فبعد نفي الكتاب أن أعمالهم الروائية تحمل ترددات وأصداء من سيرهم الشخصية، صار الأمر مباحاً بالجهر؛ حيث يكتب على كثير من الأغلفة الخارجية للنصوص: «سيرة روائية»، وهو ما يعادل «رواية السيرة الذاتية» لدى بعض النقاد.