عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Nov-2020

العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية

 القدس العربي-خالدي وليد

ساهم النظام النيوليبرالي، وما يعيشه من تطورات وتغيرات، في تقويض منظومة الأنساق الأخلاقية السائدة في المجال التداولي، ومن ثمة، عمل على الإعلاء من النزعة الفردانية الموغلة في النرجسية، المتجاوزة لثقافة الإلزام والواجب، كنسق مغاير يتخطى الصيغ الأخلاقية المعيارية، انطلاقا من إعادة قراءتها في ضوء التحولات المعاصرة، التي يشهدها العالم اليوم، حيث أخذت الإنسانية من جديد إلى أفق آخر غير الأفق الذي اعتادت عليه، ولطالما تشربت من معينه، ونهلت من أفكاره وتصوراته ورؤاه، وهو ما يعني بعبارة أخرى، الكشف عن عوالم ذات محمولات دلالية، تغير من نظام الأشياء وتقدم نفسها كبديل ضمن تصورات تكون هي الأكثر انفتاحا في تغيير الأوضاع والمواقف، على مستوى الوظيفة والتداول. واستنادا إلى هذه المحددات إلى أيّ حد يكون حق التصرف الذاتي في ثقافة ما بعد الواجب؟ وهل القوانين تقيم تعارضا بينا مع مبدأ الحرية؟ وما المعيار الضامن للحقيقة؟ وهل الذات هي المحدد لقيمة القيم في ثقافة ما بعد الأخلاق؟
 
ثقافة ما بعد الواجب
الانفصال بين المثال والواقع:
 
إذا سلمنا جدلا في أن الإنسانية في وقتنا الراهن، تحاول قدر المستطاع العمل على تحرير المجتمعات، أو الأفراد، من الأفكار والتصورات والرؤى الحتمية، كمحفلية تعزز من مسيرة التقدم، ضمن إواليات السلوك الإنساني كعلامة فارقة، ففي سياق هذا التحول في البراديغم والتفكير، لم تعد فكرة الواجب كما روجت لها العتبة الأولى من العلمنة الأخلاقية، خاصة مع الفيلسوف الألماني كانط، التي تدعو الذات إلى الاستجابة للأوامر الأخلاقية، المرتبطة بحياة الإنسان البراغماتية، بمعنى، ضرورة أداء الفعل احتراما للقانون العقلي في ذاته، على حد تعبيره، فإن هذه الفكرة تعد من أساسها متآكلة، في ظل وجود الذات الباحثة عن السعادة والمتعة والرفاهية، ويتعلق الأمر، في كسر حاجز الممنوعات البعيد عن الواجبات المشروطة، التي تتكيف مع المبدأ العقلي أو اللزوم الأخلاقي. وقد دفع بهذا الموقف العصر الفرداني الجديد، من خلال تجسيد فكرة الحرية وتمثيلها فعليا على أرض الواقع، ففي مقابل تضخيم الذات، وإطلاق العنان لأدوارها في أعلى شرفات الأنانية، التي تتعدى حدود الخطيئة على اعتبارها المعيار المحدد لقيمة القيم؛ هو ما أدى بالعتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية، أن تتحرك ضمن أرضية ابستمولوجية تعتمل في سياق محو القداسة عن الوعي الفاضل، سواء أكان دينيا أو عقلانيا، وللخروج من عنق الزجاجة ترى ثقافة ما بعد الواجب، أن المعيار الأوحد في تحديد الحقيقة هي الذات المتجاوزة للمطالب اللامشروطة، فالفعل الخلقي يستمد مقوماته الجوهرية من خلال تقويض فكرة الأنا، التي ترزح تحت نير المشاريع الكبرى أو المثل الأخلاقية العليا، أو المفاهيم العامة والكلية.
 
الحركة الهيومانية الدائبة في عصر اللايقين في زمننا المعاصر قامت بشلل تام على مستوى الروابط الحقيقية، ويتعلق الأمر، في تآكل العرف والأبنية الاجتماعية والمؤسسات، من خلال تلاشي منطق الهوية ومسألة الحقيقة والتقاليد المتوارثة.
 
من هنا، يتم الانتقال بالنموذج الفلسفي الجديد ضمن حيثيات الواقع الاجتماعي، الذي يتخطى حدود المعايير الخارجية الموضوعية، بما فيها النموذج العلمي والمنطقي، ويستجيب لمقتضيات الذوات التي تغذيها ثقافة الرفاهية والمطالب الإغرائية اليومية، إذن، نحن هنا أمام فردانية جديدة ذرائعية تسعى جاهدة في تحقيق المصلحة الذاتية، والمنفعة التي تعزز من الجوانب العملية، في ظل فقدان الثقة بالقيم المتعالية التي تشكل إطارا كليا ناظما للسلوك الإنساني، وكان من نتائج هذه الدعاوى، أن أصبح المجتمع العصري نظاما بدون مرجعيات تتحول فيه القيم ويتبدل فيه كل شيء في دائرة لانهاية لها، بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي جون بودريار، فضمور هذه الأشياء واختفاؤها في وعي الناس، أو المجتمعات، يؤسس لرؤية جديدة للإنسانية، هذا الاستثناء الذي أحدث شرخا على مستوى المعتقدات المشتركة، أخذ بأيدينا إلى أفق جديد يؤثث لوعي جمالي في إدراك العالم بالمعنى النتشوي، وهي الصيغة القريبة التي ترمي بنا في أحضان ثقافة ما بعد الأخلاق، التي تدخل ضمن عنوان عريض يدعو لفكرة الفردانية التملكية، داخل حركة الواقع المعيش، ولن يتأتى هذا الأمر إلا في ظل تهاوي الفضائل والقيم النبيلة والنماذج الجاهزة، التي تحقق أكبر قدر ممكن من الإلزام الخلقي، ما يفسح المجال أمام النفس التي يخبو من جرائها هذا الوعي بانوجاد الشعور الأنوي الرغائبي الجواني، كوجود فعلي تجسيدي مشدود للغريزة واللذة، والولع بالشهوات والعشق اللامحدود للكينونة، باعتبارها عناصر ضرورية للحياة، وقد كشف عن هذا التصور الأساسي الفيلسوف الألماني ماكس شتيرنر، وفي هذا النطاق يقول «قضيتي ليست إلهية ولا إنسانية، إنها ليست الحق ولا الجيد ولا العادل ولا الحر، قضيتي ليست عامة بل مفردة، مثلما أنا مفرد لا شيء يعلو عليّ» فالأنا العنيد أو العميق كما يصفه ماكس شتيرنر الذي يقع في ما وراء الفكر المنطقي، يجد حقيقته في التمركز حول الذات في حركتها المعكوسة والمضادة، إذ تقوم على العقلانية الذرائعية والفردانية التي تغذيها النزعات السيكولوجية، من خلال انخراط الإنسان ضمن متطلبات الوقائع المتغيرة التي تخلصها من ربقة الأغلال والقيود، أو الأفكار المثالية التي دعا لها كل من هيغل وفيورباح وكانط وغيرهم، كما يرى شتيرنر وممن ذهب في هذا المنحى نفسه من المفكرين والفلاسفة في رؤيتهم للعالم، ونعاين هذه الصورة الحية في الارتفاع الذاتي، الذي يحاول التغلب على هذا الاستلاب ضمن شكله المطلق المحدد لقيمة القيم في تعاطيه مع هذا الوجود، هذا الأثر نجد شذراته في كتاب فريدريك نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» يعبر عنه بطريقته الخاصة قائلاً «وراء مشاعرك وأفكارك يا أخي يتخفّى سيّد قوي، حكيم مجهول اسمه عين الإنية (Le soi) إنه يسكن جسمك بل هو جسمك».
فحركة الواقع من هذا المنظور، من خلال النزعة الفردانية الجديدة التملكية والرغائبية التي تعمل على إدارة الوضع القائم في تحويل الواجبات تجاه الذات، تصبح هذه الحركة عرجاء فاقدة للاعتبارات المنطقية، التي ترسو على المنهج القويم في استقراء الظواهر والأشياء، ففي ظل غياب وهجران الأنساق الثقافية الكبرى تحل ظلامية مؤداها تفكك العلاقات الاجتماعية، بانعدام المعنى الذي يملأ الساحة بعدة توترات، منها القلق والتشتت والتمزق، الذي يدق أجراس غلواء التشاؤم، بحيث يؤثر تأثيرا عميقا في معاني الحياة والأخلاق، نتيجة الانفصال القائم بين المثال والواقع الذي جعل من الكينونة تعيش في بوتقة الشر السائل، بتعبير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومن، وتبعا لذلك، فالحركة الهيومانية الدائبة في عصر اللايقين في زمننا المعاصر قامت بشلل تام على مستوى الروابط الحقيقية، ويتعلق الأمر، في تآكل العرف والأبنية الاجتماعية والمؤسسات، من خلال تلاشي منطق الهوية ومسألة الحقيقة والتقاليد المتوارثة.
 
٭ كاتب جزائري