الغد
يبدو المشهد الأردني اليوم أكثر تعقيداً ممّا كان عليه في العقود السابقة، إذ تواجه المملكة تحدياتٍ متداخلة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتطلب رؤية نقدية وإستراتيجية تضمن استمرار حالة الاستقرار النسبي وتعزّز حضور الأردن الإقليمي.
ورغم أن السياسة الأردنية عُرفت تاريخياً بمرونتها الخارجية ونهجها الدبلوماسي الهادئ، إلّا أن المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة تفرض ضرورة إعادة تقييم هذا النهج، وتكييفه بما يخدم مصالح المملكة في المدى البعيد، خصوصاً مع ما يشهده الإقليم من إعادة تشكّل للتحالفات وتقاطع المصالح الدولية.
على الصعيد الداخلي، يواجه الأردن ضغطاً كبيراً من حيث الضرورات الإصلاحية التي لا تحتمل التأجيل، ويأتي تمكين الشباب الحقيقي في طليعة هذه الأولويات، لأن التحوّل الفكري والتركيب الفتي يفرض دمج هذه الشريحة في الحياة السياسية والاقتصادية بصورة حقيقية، وليس مجرّد شعاراتٍ أو مبادراتٍ إعلاميةٍ عابرة.
لقد بات واضحاً أنّ الشباب الأردني يمتلك وعياً متزايداً تجاه التحديات التي تحيط به، وهو ما يدفعه للمطالبة بدورٍ فاعلٍ في صناعة واتخاذ القرار، فالمشاركات الرمزية أو المحدودة لن تساهم في احتواء طاقاتهم، بل قد تُغذي حالة الإحباط السياسي والاقتصادي التي تُعد أرضاً خصبة لزعزعة الاستقرار، لذا، فإن عملية تمكين الشباب لا بد أن تنطلق من إصلاحٍ حقيقيٍ للتشريعات الناظمة للعمل السياسي والحزبي وقانون الانتخاب، وتعزيزٍ للمبادرات الريادية التي تؤسس لجيلٍ قادرٍ على الابتكار والتأثير.
من جهةٍ أخرى، تفرض المتغيرات الإقليمية نفسها على صانع القرار الأردني، إذ يشهد الشرق الأوسط تحولاتٍ إستراتيجية كبرى، تتداخل فيها مصالح دولٍ كبرى وإقليمية، وتتسارع فيها الاتفاقات والتفاهمات بأشكالٍ قد يصعب التنبؤ بمآلاتها، وقد أثبت الأردن قدرةً ملحوظةً على انتهاج دبلوماسيةٍ هادئةٍ وبراغماتية، مكّنته من الحفاظ على علاقاتٍ متوازنةٍ مع مختلف الأطراف، بالرغم من كثرة التوترات المحيطة، لكن التحدي الأكبر يكمن في مدى نجاح هذا الأسلوب في المستقبل القريب، خصوصاً إذا تغيرت المعادلات الدولية أو ظهرت مراكز قوى جديدة في المنطقة قد لا تضع في الحسبان الثوابت الأردنية، من هنا يتوجب وضع إستراتيجيةٍ خارجية تقوم على بناء تحالفاتٍ ذات بعد اقتصاديٍ تنمويٍ يخفف من وطأة الأزمات المحلية، وترسيخ شراكاتٍ سياسيةٍ واضحة المعالم تُعزّز مكانة الأردن ولا تضعه في دائرة التجاذبات المفتوحة.
التحوّل الإستراتيجي القادم يرتبط كذلك بملف إعادة هيكلة المشهد السياسي والحزبي في الداخل، إذ يعاني الحراك الحزبي في الأردن من تحدياتٍ متوارثة تمنع تشكّل أحزابٍ قويةٍ ذات برامج واضحة ضمن شخصيات تريد إعادة إنتاج أنفسها وتحقيق المصالح الشخصية ذات النظرة الضيقة وتحارب ضخ الدماء الجديدة، ويعود ذلك جزئياً إلى نظرةٍ مجتمعيةٍ سلبيةٍ تجاه العمل الحزبي، وأيضاً إلى سياساتٍ حكوميةٍ سابقة قيّدت من دور الأحزاب وحدّت من قدرتها على اكتساب ثقة الشارع، اليوم، يظهر توجّهٌ نحو إصلاحاتٍ دستوريةٍ وقانونيةٍ قد تُعيد الاعتبار للعمل الحزبي وتمكّن الأحزاب من دخول البرلمان ببرامج قابلة للتنفيذ، لكن هذه الخطوات التشريعية تظل ناقصة ما لم تترافق مع جهودٍ لبناء ثقافةٍ سياسيةٍ واعية تحترم الفكر والفكر الآخر وتعترف بأهمية المعارضة البناءة والتداول السلمي للسلطة سواء كانت بشكل حزبي، أو وصولا الى حكومات حزبية بأفكار تتناسب مع المرحلة الحالية والمستقبلية، وقادرة من خلال جميع المؤسسات بالاشتباك الايجابي مع المواطن.
إن الاكتفاء بتعديلاتٍ شكليةٍ ونتائج بنسبة أداء ضعيف لن ينتج أحزاباً قادرة على المشاركة في صنع واتخاذ القرار، بل سيؤدي إلى استمرار حالة العزوف الشعبي عن المشاركة السياسية.
في ظل هذا المشهد المتقاطع، تبدو مهمة الدبلوماسية الأردنية أكثر إلحاحاً وتعقيداً، حيث إن نجاح السياسات الخارجية يعتمد على جبهةٍ داخليةٍ متماسكةٍ ومؤمنةٍ بخريطة الطريق الوطنية.
الدبلوماسية ليست مجرد علاقاتٍ عامةٍ أو لقاءاتٍ بروتوكوليةٍ، بل آليةٌ أساسيةٌ لحماية المصالح الوطنية في منطقةٍ لا تكفّ عن التغيّر، ولا يمكن للأردن أن يبقى معلقاً بين حسابات الأطراف الكبرى دون خططٍ واضحةٍ طويلة الأمد، تراعي المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية معاً.
إن صياغة دورٍ إقليميٍ أكثر حضوراً يتطلب تعزيزات للمسيرة السياسية لإبرام تحالفاتٍ جديدة، وقدرةً على المحافظة على المكتسبات التقليدية التي ترتكز على استقرار النظام السياسي وثقة المجتمع الدولي به.
لا شك أن التحديات الاقتصادية تمثل عامل ضغطٍ إضافي على صانع القرار الأردني، ما يفرض إيجاد حلولٍ خلاّقةٍ لتعزيز النمو واحتواء البطالة، خصوصاً بين الشباب.
إن استثمار الموارد البشرية هو خيارٌ إستراتيجي لا مناص منه، ونجاح التمكين الحقيقي للشباب مرهونٌ بتوفير بنيةٍ تحتيةٍ رقميةٍ وفرصٍ تدريبيةٍ ملائمة، فضلاً عن تعزيز بيئةٍ تشريعيةٍ مرنةٍ تحفّز ريادة الأعمال وتمنع احتكار السوق من قِبل فئاتٍ محدودة، فالمعادلة الاقتصادية الناجحة تشكّل رافعةً أساسيةً لأي إصلاحٍ سياسي، وتعزّز من قدرة الدولة على توظيف نفوذها الدبلوماسي، خصوصاً إذا امتلكت أوراق قوةٍ في مجالاتٍ حيويةٍ كالسياحة والزراعة واللوجستيات والتعليم والصحة وغيرها.
وعليه، يتضح أن الأردن أمام مرحلةٍ فارقةٍ تتطلب مراجعةً نقديةً ومعمّقةً لطريقة إدارة شؤونه الداخلية والخارجية، فالبيئة الإقليمية لم تعد تحتمل التباطؤ في بناء رؤى وطنيةٍ موحّدة، والشباب الأردني بات أكثر إصراراً على المشاركة في صناعة القرار، والأحزاب مطالبةٌ بالتخلّص من بيروقراطيتها وعجزها التقليدي عن تقديم برامج إصلاحٍ حقيقية، ويبدو أن التعويل على نفس الأساليب الدبلوماسية السابقة لمواجهة المشهد الإستراتيجي القادم قد يوقع الأردن في دائرة الحسابات الضيقة، فالتكيّف مع المستقبل يتطلب جرأةً تتجاوز الحلول الجزئية وتستقرّ على منظومةٍ تُعيد الثقة بين المواطن والمؤسسات.
إن نجاح هذا المسار مرتبطٌ بقدرة الدولة على اتخاذ قراراتٍ جريئةٍ في توقيتٍ مناسب، تراعي مطالب الشباب وتُكرّس الإصلاحات السياسية وتقوّي الدور الدبلوماسي للدولة، فالاستقرار الفعلي لا يمكن أن يقوم على دبلوماسيةٍ منعزلةٍ عن الداخل ولا على إصلاحاتٍ مقتصرةٍ على الورق. ما يحتاجه الأردن في هذه اللحظة هو تضافر جهودٍ سياسيةٍ جدّيةٍ ترسم إستراتيجيةً جديدةً تمزج بين البُعد الاقتصادي والانفتاح السياسي، وتُطلق طاقات الجيل الجديد نحو أفقٍ أوسع من الفرص، حينها فقط، يستطيع الأردن تحويل تحديات الحاضر إلى منصةٍ لبناء مستقبلٍ يليق بطموحات شعبه وموقعه الإقليمي.