عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Sep-2025

المنصب العام في عصر الضجيج الرقمي*د.عاصم منصور

 الغد

في زمنٍ مضى، كان المسؤولُ مُحاطًا بهالةٍ من الهيبةِ ومسافةٍ من العُزلة، لا يخترقها سوى الإعلامُ التقليديّ بمقالٍ هنا أو برنامجٍ هناك، وهذه جميعها كانت تحكمها تقاليدٌ راسخةٌ وتوازناتٌ تتمُّ مراعاتها ناهيك عن مقصّ الرقيب.
 
 
أما اليوم، فقد تحوّلت وسائلُ التواصلِ الاجتماعيّ إلى ساحةٍ مفتوحةٍ تختزل هذه المسافةَ بالكامل؛ ليصبح كلُّ مواطن قادرًا على إطلاقِ حُكمِه وتوجيه نقدِه دون عناء أو خشية من المساءلة، وبقسوةٍ أحيانًا وبحقائقَ مشوشةٍ أحيانًا أخرى.
أخبرني أحدُ الوزراءِ السابقينَ أنه يتجنّبُ متابعة السوشال ميديا كليًّا؛ مُبرّرًا ذلك بأنها تستهلكُ وقته وتستنزفُ أعصابه دون جدوى. فالعملُ الحقيقيّ برأيه لا يحتاجُ إلى مواكبةِ العاصفةِ اليوميةِ من التعليقات والانطباعات؛ بل يتم من خلال العمل المُؤسسيّ ووحداتِ القياس العلمية.
وهذا الموقفُ، وإنْ بدا منطقيًّا من زاويةِ حمايةِ الطاقةِ الذّهنية؛ إلّا أنه يَحجِبُ جانبًا آخر لا يقل أهميةً، فتجاهلُ هذه المساحةِ يعني العزوفَ عن مصدرٍ مباشرٍ لفهمِ ما يشغلُ بال المواطنين ويُؤرّقهم.
فالمنصاتُ الرقميةُ رغم ضجيجها؛ باتت مرآةً لنبضِ الشارع، فرغم أنّها مليئةٌ بالأحكامِ السريعةِ والانتقاداتِ الجارحة، إلاّ أنها وسط كل ذلك تظهر وعيا شعبيا متناميا، يراقِبُ التفاصيلَ ويطالبُ بالتوضيحِ والمساءلة.
فكثيرٌ من الحملاتِ التي بدأت كتغريداتٍ غاضبةٍ انتهت بتحريكِ ملفات راكدةٍ أو دفع المُؤسساتِ إلى التّحرك بوتيرةٍ أسرع. وبالتالي، فإنّ السوشيال ميديا لا يُمكن النظر إليها فقط كعِبء؛ بل كقوةِ ضغطٍ قد تتحولُ إلى شريكٍ في صنع القرار إذا أُحسن التعامل معها.
التّحدي أمام المسؤول في عصرِ السوشال ميديا مُزدوجٌ ما بين السّعي لتحقيقِ إنجازٍ واقعي ملموسٍ من جهة، وإدارةِ خطابٍ عامٍّ مُتّزن من جهةٍ أخرى، فلم يعُد الصّمتُ محمودا كما كان في الماضي؛ بل قد يتحوّلُ إلى فراغ يملؤُه الآخرونَ بتأويلاتهم، والمسؤولُ الناجحُ اليوم ليس من يكتفي بالعملِ الدؤوب؛ بل من يعرف متى يصغي ومتى يوضّح ومتى يتجاهل، دون أن يفقدَ رباطةَ الجأش أو مصداقية الأداء.
إنّنا نعيشُ عصرًا انكشف فيه كلُّ شيء تقريبًا؛ حيث لا الغرفُ المغلقةُ تحجب ما يدور خلف جدرانها، ولا البيانات ُالرسمية تكفي وحدها لطمأنة الناس؛ لذلك فإنّ السؤال لم يعد ما إذا كان المسؤولُ سيواجه النقد، بل كيف سيختار مواجهته، فما بين إنجازٍ صامتٍ وضجيجٍ لا يهدأ، تكمنُ مُعادلةٌ صعبةٌ تحدّد نجاحَ أو فشلَ أصحابِ المناصبِ العامة في زمنٍ جديدٍ لا يُبقي سِترًا ولا يمنح هُدنةً.