"الصعود إلى النص" لسمير اليوسف.. أثر النقاد في الذاكرة الأدبية
الغد-عزيزة علي
يعد كتاب "الصعود إلى النص" للكاتب والباحث سمير اليوسف، امتدادا لمشروع ثقافي يسعى إلى تثبيت أثر النقاد في الذاكرة الأدبية، عبر شهادات وتحليلات وأصوات متعددة، تمثل طيفا واسعا من التجارب النقدية والإبداعية العربية. وهو لا يقدم صورة أحادية ولا يتوقف عند المديح، بل ينفتح على المساءلة ويدرج وجهات النظر المختلفة، في محاولة لرسم صورة متكاملة للناقد، تتقاطع فيها الرؤية وتتباين المواقف.
وكتاب "الصعود إلى النص"، هو الجزء الثاني ضمن سلسلة "بعض وفاء"، التي يعمل عليها الباحث اليوسف، ليس فقط توثيقا لمنجز نقدي، بل هو في جوهره دعوة إلى إعادة التفكير في دور الناقد، في موقعه بين النص والواقع، وفي وظيفته كجسر بين الإبداع والفهم. فإبراهيم خليل، كما يظهر في هذا العمل، ليس ناقدا عابرا في المشهد، بل هو قارئ حاذق، يمسك النص من أطرافه لينفذ إلى أعماقه، متحررا من سلطة الأسماء ومجاملات المشهد، مستندا إلى أدوات علمية وذائقة مشروطة بالمعرفة والتجربة.
يشمل الكتاب، الذي صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع. على مقالات وشهادات مع بعضها البعض، لا لتتطابق، بل لتثري صورة الناقد من زوايا متعددة: منجزه النقدي، دقته في التحليل، صرامته المنهجية، وجرأته في قول ما يعتقد دون مراوغة. ولعل هذه التعددية في الأصوات هي ما يمنح الكتاب قيمته الخاصة، إذ لا يدعي امتلاك الحقيقة، بل يفتح أفقا للتفكير، ويضع القارئ أمام مشهد نقدي متشابك، غني بالسؤال، وراسخ في المعاينة.
ويرى المؤلف في مقدمته للكتاب، أن هذا الكتاب "الصعود إلى النص"، جاء في جزئه الثاني، ليعيد الاعتبار إلى فعل القراءة بوصفه ممارسة وعي، ومسؤولية نقد، وحوارا مفتوحًا مع النصوص وأصحابها. في هذا العمل، لا ينحاز سمير اليوسف إلى التمجيد المجاني، بل يخط على صفحات الكتاب مسارا تأمليا في منجز ناقد عربيّ مشهود له، هو الدكتور إبراهيم خليل، جامعا بين التكريم الواعي والتفكيك النقدي الرصين. فإن الكتاب لا يقرأ فقط بوصفه إضاءة على شخصية ناقد، بل بوصفه تأريخا ثقافيا لجيل من القراء والنقاد والمبدعين الذين آمنوا بأن الكتابة مسؤولية، وأن الكلمة التي لا تمر بالمراجعة والفحص، لا تستحق أن تقال.
ويرى اليوسف أن هذا الكتاب يجمع بين التقدير والنقد، والمساءلة والحوار، إذ توزعت محتوياته بين مقالات وحوارات كتبها أدباء ونقاد وصحفيون تناولوا بالقراءة والتحليل جوانب من منجز الدكتور إبراهيم خليل، الذي يعد- بحسب كثير من المهتمين- من أبرز النقاد الذين قارَبوا النصوص الأدبية بعين فاحصة، ووعي نقدي متجدد، وجرأة في الطرح.
كما يشير إلى أن بعض الباحثين وصفوا الناقد خليل بأنه "أكثر النقاد الأردنيين ممارسة للتحليل النقدي التطبيقي"، وأنه "منذ أكثر من أربعة عقود، لا يكاد يخلو ملحق ثقافي أسبوعي في الصحف الأردنية من دراسة أو متابعة يخطها". وقد وصفت أعماله بأنها "واضحة الرؤية، بعيدة الأفق، قريبة البيان، سلِسة الروح، وسامية الغاية"، فيما اعتبر مشروعه النقدي "ثابت القدم، راسخ الرؤية، متوازنا في جمعه بين التحليل الأكاديمي والنظر الثقافي، وبين المقاربة النصية والهم التاريخي للأنواع الأدبية".
ويضيف اليوسف أن المشاركين في هذا الكتاب ينتمون إلى أجيال وتجارب ثقافية متباينة، فبعضهم من الرواد في مجالي النقد والإبداع، وآخرون من الصحفيين والمثقفين الذين تابعوا منجز خليل وكتبوا عنه، فجاءت مقالاتهم حافلة بالتحليل والمقارنة والشهادة. وتضمن الكتاب حوارات تكشف خلاصة رؤى الناقد تجاه قضايا الأدب وهموم المشهد النقدي وتفاصيل الساحة الثقافية، كما عاشها خلال نصف قرن من العطاء.
وقد ضمت صفحات الكتاب عددا من الأسماء التي راكمت خبرات طويلة في مجالات الإبداع والنقد والصحافة الثقافية، من بينهم: القاص الأردني محمود الريماوي، صاحب التجربة الثرية في القصة القصيرة والمقالة الصحفية، والروائي المغربي أحمد المديني، الذي يجمع بين السرد والنقد والفكر، والدكتورة حنين المعالي، صاحبة الدراسة الأكاديمية المعمقة حول جمال ناجي والرواية الأردنية، والكاتب العراقي عواد علي، المعروف بثقافته الموسوعية واهتمامه بالرواية والمسرح والنقد، والشاعر والناقد اللبناني سلمان زين الدين، المعروف بمقالاته الأسبوعية حول الشعر والنقد في الصحافة الثقافية اللبنانية. كما شارك الصحفي والكاتب الثقافي وليد حسني، والدكتور شفيق طه النوباني، الذي جمع بين النقد الأدبي والبحث القصصي، واشتغل على الاتجاه الواقعي في النقد.
وينوه اليوسف إلى أن ما يميز هذا العمل هو حرصه على عرض الآراء المختلفة، وعدم الاكتفاء بالاحتفاء الأحادي، حيث أدرجت في الكتاب ملاحظات نقدية حادة ووجهات نظر مخالفة وجهت إلى الناقد إبراهيم خليل في بعض المقالات المنشورة، تأكيدا للحياد والموضوعية واحترام الرأي الآخر، حتى وإن تعارض مع التوجه العام للمحتوى.
ومن الأمثلة على ذلك، ما ورد في إحدى المقالات عن أن كتاب "نقاد الأدب في الأردن وفلسطين"، "كتاب غير علمي"، وأن من "مشكلاته كثرة الإحالات إلى المصادر والمراجع"، وهو مأخذ يثير التساؤل، إذ تعد كثرة الإحالات وضبطها من سمات البحث العلمي الرصين لا من عيوبه.
كما أخذ على المؤلف تحيزه لبعض الأسماء النقدية العربية المعروفة- مثل إحسان عباس، محمود السمرة، جبرا إبراهيم جبرا، سلمى الخضراء الجيوسي- بزعم إغفاله لغيرهم، في حين أن الكتاب صدر العام 2003، حين لم تكن أعمال الجيل الجديد من النقاد قد بلغت من التميز ما يبرر إدراجهم ضمن قائمة التوثيق.
ويرى المؤلف أن القارئ، عند اطلاعه على مجمل محتويات الكتاب، يلحظ حجم التقدير الذي حظي به الدكتور خليل من زوايا نقدية متعددة، ومن أقلام مختلفة المشارب والانتماءات. فقد أثنى البعض على صرامته المنهجية، وقدر آخرون دقته في التحليل الفني، فيما رأى فيه آخرون صوتا حيا للذات العربية المثقفة، التي تربط بين النقد والمعرفة، وتجمع بين التكوين الشخصي والهم الجمعي، وتتعامل مع النص الأدبي كفعل يتجاوز ظاهر الجملة إلى عمق الفكرة.
ولعل أبرز ما يميز شخصية الدكتور إبراهيم خليل النقدية، هو ذلك التوازن المتناغم بين صرامة الباحث ودقة المصطلح، وبين شغف القارئ وحس الأديب. فقد تشكلت أدواته من تراكم معرفي طويل، وتجربة أكاديمية تمتد لعقود، واحتكاك مباشر بالمنجز الأدبي العربي، ولا سيما الفلسطيني والأردني. وهو ناقد لا يسلم بمسلمات المدارس النقدية الجاهزة، بل يتعامل مع النصوص بوصفها كائنات حية تستدعي أدوات خاصة للتحليل.
ويشير اليوسف إلى أنه عرف عن خليل أنه "لا يجامل على حساب الدقة"، وأنه "يذهب إلى النص وفي يده ميزان"، لا تروعه الأسماء الكبيرة ولا ترهبه الشهرة. ولهذا جاءت كتاباته مفعمة بالحيوية، بعيدة عن التقريرية، حريصة على أن يكون لكل رأي سند من النص، ولكل حكم قرينة واضحة، ما أكسبه احترام جمهور واسع من النقاد والقراء، حتى أولئك الذين اختلفوا معه. فقد ظل، طوال مسيرته، وفيا لمبدئه: أن يكون النص هو المرجع، لا الأهواء ولا السياقات الجانبية.