المؤثرون من ذوي الإعاقة.. رواية تكسر الصورة النمطية وتلهم بالتغيير
الغد-ربى الرياحي
في السنوات الأخيرة تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى فضاء حر يمكن الأشخاص ذوي الإعاقة من كسر الصورة النمطية التي طاردتهم لعقود. فبدلا من أن يكونوا موضوعا للحديث أو التعاطف أصبحوا هم من يقودون الحوار بأنفسهم.
يعرضون تجاربهم وينسجون روايتهم الخاصة بعيدا عن عدسة الشفقة أو العزلة. أسهمت هذه المنصات في رفع مستوى الوعي المجتمعي تجاه الإعاقة من خلال نقلها من إطار العجز إلى شكل جديد من أشكال القوة وذلك عبر مقاطع الفيديو والبثوث المباشرة والمنشورات اليومية.
بدأ الناس يرون الوجه الحقيقي للأشخاص ذوي الإعاقة ممن يدرسون يعملون يسافرون ويكسرون الحواجز بجرأة ووعي. هذه الصورة الجديدة لم تولد من مؤسسات أو حملات رسمية بل من مبادرات فردية خلقت تأثيرا عميقا.
تجارب ملهمة يبثها ذوو إعاقة
سارة أبو علي مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي وهي شابة كفيفة اختارت أن ترى الحياة بعين مختلفة كسرت سارة القاعدة، وقررت أن تعرف الناس على تجربتها الخاصة وعلى تفاصيل أخرى مجهولة بالنسبة لكثيرين.
ومنذ بداياتها على المنصات الرقمية، لم تسع سارة لاستدرار التعاطف أو لفت الانتباه بإعاقتها بل جعلت من تجربتها نافذة يطل منها الآخرون على عمق مختلف يقدم الأشخاص ذوي الإعاقة على حقيقتهم كأشخاص يعيشون الحياة نفسها لكن بطريقتهم.
تستخدم سارة كلماتها لتزرع وعيا جديدا يقوم على الاحترام فهي لا تقدم نفسها كضحية، بل كصوت ينادي بأن الاختلاف تنوعا في طرق العيش والإحساس وليس نقصا كما يراه البعض.
تقول في حديثها لـ"الغد"؛ في البداية لم تكن هناك خطة واضحة "كنت أشارك تفاصيل بسيطة من حياتي اليومية دون هدف محدد سوى التعبير عن ذاتي كما أنا". ومع مرور الوقت لاحظت أن ثمة من يهتم حقا بمعرفة المزيد عن تجاربها وغيرها من ذوي إعاقة.
مساحة حقيقية للتفاعل مع الآخر
شعرت بأن لديها مساحة حقيقية لتتحدث بصوتها وبطريقتها الخاصة من دون أن يتحدث أحد بالنيابة عنها أو يقرر كيف يجب أن تروى قصتها أو كيف ينبغي أن ترى. لم تكن تتوقع أن يصل ما تقدمه إلى هذا الحد كل ما ارادته هو أن تكون صادقة أن تشارك تفاصيل صغيرة من الواقع اليومي لكن ما حدث أن الناس لم تكتف بالمشاهدة بل بدأت تتغير نظرتها فعلا.
أصبح الحوار أعمق وأكثر إنسانية وصار الحديث عن الإعاقة مساحة للفهم لا للشفقة. أكبر التحديات كان الخوف من الحكم المسبق من النظرة المترصدة أو من أن يفهم المحتوى على أنه استدرار للعاطفة لا دعوة للوعي، كما كان الخوف من الظهور بحد ذاته أمرا مربكا في البداية، لكن مع الوقت تعلمت أن تتصالح مع نفسها وأكثر ثقة بأن الصدق وحده كافٍ ليصل.
وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الناس ترى الحقيقة من داخل التجربة، فعندما يتحدث الشخص عن نفسه بعفوية وواقعية تزول الحواجز بين نحن وهم ويتحول الاختلاف إلى مساحة للتقارب الإنساني.
التغيير بدأ فعلا وإن كان بطيئا، فالكثير من المؤثرين من ذوي الإعاقة باتوا يقدمون محتوى صادق وطبيعي بعيدا عن الدراما والمبالغة، وهذا بحد ذاته كسر للصورة النمطية التي كانت تحصر الإعاقة في ثنائية المعاناة أو البطولة.
المنصات ورواية الحكاية بدون فلترة
تحاول سارة أن تكون مثالا حقيقيا وبسيطا بدلا من المثالية الخادعة. فحين يراها الناس تتحدث بعفوية أو حتى بتردد أحيانا ربما يشعرون أن بإمكانهم هم أيضا أن يشاركوا أصواتهم بطريقتهم الخاصة.
وتبين أن التفاعل معها كان في البداية يميل أكثر للعاطفة لكن مع الوقت أصبح أكثر نضجا ووعيا تحول الإعجاب إلى حوار والمجاملات إلى أسئلة ونقاشات حقيقية حول التفاصيل والتجارب.
منحتها المنصات الرقمية حرية أن نروي الحكاية بأنفسنا بدون فلترة ولا عناوين مثيرة. صحيح أن التعليقات السلبية ما تزال موجودة لكن الوعي يكبر والمساحة الآمنة التي نصنعها بحضورنا المستمر تتسع يوما بعد يوم. الوعي لا يبنى بفيديو واحدة أو حملة مؤقتة بل بالصدق والاستمرارية بتكرار الرسائل الصغيرة التي تترك أثرا عميقا في نظرة المجتمع بمرور الوقت.
تجارب انسانية مليئة بالطموح
وتشير الناشطة الحقوقية الدكتورة تقى المجالي إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن مجرد منصات للترفيه أو التعبير الفردي، هي تحولت إلى مساحات عميقة لكسر الصورة النمطية تجاه فئة لطالما حوصرت بقوالب جاهزة، فالأشخاص ذوو الإعاقة وجدوا فيها صوتهم الحر بعد سنوات من التهميش وأصبحوا هم من يروون قصصهم.
توضح المجالي أن التحول الجذري الذي أحدثته هذه المنصات يكمن في قدرتهم على تقديم أنفسهم بشفافية بلا وسيط أو وصاية من أحد وهو ما غير تماما الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى الإعاقة. فلم تعد الإعاقة تقدم كقصة معاناة أو بطولة خارقة بل كجزء من تنوع التجربة الإنسانية تعرض فيها حياة حقيقية مليئة بالطموح والعمل والنجاح.
وترى أن تأثير هذه المنصات تجاوز الصورة الفردية إلى تشكيل وعي مجتمعي جديد، حيث بدأ الجمهور يتفاعل مع المحتوى الإنساني اليومي الذي يقدمه أشخاص من ذوي الإعاقة من تجاربهم في التعليم والعمل إلى مشاركتهم في الفنون والرياضة والمبادرات المجتمعية. هذه التفاصيل الصغيرة كما تصفها المجالي، ألغت الصورة القديمة القائمة على الشفقة أو الإقصاء ووضعت مكانها صورة تقوم على الاحترام والمساواة.
أحداث فرق حقيقي عبر المنصات
وتلفت المجالي إلى أن هذا التغيير لم يحدث بسهولة بل جاء ثمرة جهد طويل من أشخاص قرروا أن يستخدموا الكاميرا والهاتف كأدوات مقاومة، وتغيير للواقع فكل منشور وكل مقطع مصور وكل حملة توعية كانت خطوة صغيرة في أحداث فرق حقيقي في حياة هذه الفئة.
وتختم المجالي حديثها بقولها إن مواقع التواصل الاجتماعي لم تحسن فقط صورة ذوي الإعاقة وإنما أعادت لهم حقهم في الظهور وفي التعبير عن أنفسهم لقد فتحت هذه المساحات الرقمية الباب أمام الجميع ليروا الأمور بعين الإنسانية ويتعلموا أن الاختلاف أساس الحياة.
وترى خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم أن الصورة التقليدية عن الأشخاص ذوي الإعاقة في الماضي كانت ترتبط غالباً بالضعف أو الاحتياج أو العجز، وقد ساهم هذا التصور في عزلهم وتقييد مشاركتهم في المجتمع.
وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية لعبت دوراً محورياً في تفكيك هذه الصورة من خلال إظهار قدراتهم بدل إعاقاتهم، فالمحتوى الرقمي أتاح لهم عرض مواهبهم في الرسم، والعزف، والكتابة، والرياضة، والابتكار العلمي، مما أبرز أن الإعاقة ليست دائماً عائقاً، بل قد تكون دافعا للإبداع، وفق إبراهيم.
من العطف والشفقة للاحترام والاعتراف
أيضاً، حين يروي الأشخاص ذوو الإعاقة تجاربهم بأنفسهم، ينتقل المجتمع من رؤية العطف والشفقة إلى الاحترام والاعتراف.
وكان هناك فرصة لتقديم نماذج نجاح حيّة، فقصص النجاح التي تنتشر عبر الإنترنت ساهمت في تغيير مفهوم العجز إلى القدرة على التحدي.
ومنحت التكنولوجيا الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، بحسب ابراهبم، فرصة للأشخاص ذوي الإعاقة للتعبير عن الذات وعززت ثقتهم بأنفسهم وأيضاً ثقة الآخرين والمجتمع بهم.
والتكنولوجيا لم تغيّر فقط كيف ينظر المجتمع إلى ذوي الإعاقة، بل منحتهم هم أنفسهم صوتاً من خلال إمكانية إنشاء محتوى مستقل عبر منصات مثل يوتيوب، إنستغرام، فيسبوك، تيك توك، حيث بات الأشخاص ذوو الإعاقة قادرين على تقديم أنفسهم كما يريدون دون وسيط.
ومكنتهم أيضاً من المشاركة في النقاشات العامة حيث يمكنهم اليوم أن يشاركوا في حوارات تخص قضاياهم، وأن يصبحوا صنّاع رأي بدلاً من مجرد موضوع للنقاش.
أيضاً تؤكد إبراهيم ان التطور الرقمي وفرت لهم سُبل للتعلم والعمل عن بعد من خلال الأدوات الرقمية التي أتاحت فرص تعليم وتدريب ووظائف عن بعد، مما خفّف من الحواجز المكانية والجسدية.
بناء شبكات دعم إلكترونية
كما اصبحت التكنولوجيا كوسيلة للدمج الاجتماعي من خلال مساهمتها في دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع بصورة أعمق وبناء شبكات دعم إلكترونية من خلال
مجموعات الدعم عبر الإنترنت التي ساعدت في تبادل التجارب والمشاعر والتحديات، مما خفف من الإحساس بالعزلة وزيادة القبول المجتمعي.
وحينما يرى المجتمع أمثلة ناجحة لأشخاص ذوي إعاقة يدرسون، يعملون، يبدعون، وينتجون محتوى مؤثر، تتغير مستويات التقبل وتضعف الصور السلبية.
وبحسب إبراهيم، الأصوات الرقمية القوية ساعدت في الضغط لتعديل قوانين التعليم والعمل والبنية التحتية لصالح الدمج والحقوق.
ختاما؛ يبقى المؤثرون من ذوي الإعاقة يمارسون حقهم الطبيعي في الحياة والتعبير عن ذواتهم. كما أن التفاعل المباشر مع الناس ألغى الحواجز النفسية، وخلق جسرا من الفهم والاحترام بدل المسافة القائمة على الشفقة أو الجهل.
واليوم أصبح الأشخاص ذوو الإعاقة هم من يملكون الكلمة والصورة يرسمون ملامح حضورهم كما يشاءون ويثبتون أن الإعاقة ليست حاجزا بل دافعا في فضاء رقمي أكثر شمولا.