عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Sep-2023

حين كان اليهود عربا: عوالم آفي شلايم الثلاثة

 الغد-مايكل يونغ - (كارنيغي الشرق الأوسط) 6 أيلول (سبتمبر) 2023

في كتابه الصادر حديثًا، يصف المؤرّخ آفي شلايم العوالم الثلاثة التي ساهمت في تشكيل شخصيته: العراق، وإسرائيل، وبريطانيا.
 
بعض أكثر الكتب عمقًا في النظرة وغنى بالمعلومات عن النكبة التي تعرّض لها السكان العرب في فلسطين على أيدي القوات الصهيونية في العام 1948 كتبها مؤرخون إسرائيليون تصحيحيون. وآفي شلايم واحد من بين أبرز هؤلاء المؤرخين. وقد صدر له في الآونة الأخيرة كتاب يكشف الكثير ويحمل عنوان "ثلاثة عوالم: مذكرات يهودي عربي" Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew.
كان شلايم قد اشتهر بكتبه التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، ومنها كتابه المهم "الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي" The Iron Wall: Israel and the Arab World، الذي جادل فيه بأن المبدأ التأسيسي لإسرائيل والمنطق الطاغي على علاقاتها مع العرب هو إبقاء الدولة خلف "جدار حديدي" من التفوق العسكري، الذي "يعجز (العرب) عن هدمه"، على حدّ تعبير القيادي الصهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي، الذي عبّر عن هذه الفكرة للمرة الأولى في مقال شهير كتبه في العام 1923.
يصف شلايم في مذكّراته المراحل الأولى من حياته في بغداد، حيث نشأ في كنف والدَين يهوديَّين عراقيَّين (مع أن اسم شلايم لجهة أبيه "كان على الأرجح اسمًا ألمانيًا توارثته أجيال عديدة")، في بيتٍ تحدث العربية وتشرَّب الثقافة العربية ونَعِم بالازدهار في العراق. ويرى شلايم أن يهود العراق كانوا عربًا، وأن الفلسطينيين هم الضحايا الأساسيون للحركة الصهيونية، لكنهم ليسوا الوحيدين، إذ كان يهود العالم العربي من بين ضحاياها أيضًا. وكتب عن ذلك: "من خلال إضفاء عنصر الأرض على المسألة اليهودية، والذي لم تكن تملكه في السابق، عمّقت (الصهيونية) فجوة الاختلافات القائمة بين المسلمين واليهود في الفضاءات العربية. وبات اليهود منذ ذلك الحين يتماهون مع الدولة اليهودية، سواء شاؤوا ذلك أم أبوا".
من المثير للاهتمام في هذه المذكرات مدى شعور شلايم، بعد انتقال عائلته إلى إسرائيل في العام 1950، بالتفاوت بين اليهود الأشكناز واليهود المزراحيين الذين هاجروا من العالم العربي. فقد أبدت النخب الأشكنازية في إسرائيل سلوكًا متعاليًا تجاه اليهود الوافدين من الشرق. ويتحسّر شلايم على أن الهوية العربية في أوساط اليهود العرب "تمّت تنحيتُها باعتبارها من الماضي"، لصالح "ذهنية استكبارية واستشراقية وفق منظور مركزي أوروبي" تعامل مع الوافدين الجدد من المزراحيين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. ويستذكر شلايم قائلًا: "كنت أشعر بحرج شديد من التحدث بالعربية في الحيز العام، لأنها كانت تُعتبر لغة قبيحة وبدائية في إسرائيل، والأسوأ -لغة العدو".
كذلك، لا يبدي شلايم تساهلًا مع الأساطير المؤسِّسة لإسرائيل، بل ينظر إلى الصهيونية على أنها "حركة استيطانية استعمارية سعت بلا رحمة إلى تحقيق هدفها المتمثّل في إقامة دولة يهودية في فلسطين، حتى لو تخلّل هذه العملية حكمًا طردُ أعداد كبيرة من السكان الأصليين". ولا يتردّد شلايم في وصف هذا "الظلم الجائر" بأنه يرقى إلى "التطهير العرقي". في أيامنا هذه، يسعى أكثر مؤيّدي إسرائيل حماسةً إلى فرض تعريفٍ لمعاداة السامية يشمل مثل هذه التصريحات شديدة اللهجة، وينزع بالتالي الشرعية عنها، بصرف النظر عن أن كتّابًا يهودًا بارزين قد عبّروا في كتاباتهم عن أفكار مماثلة حول إسرائيل.
على سبيل المثال، كتب المفكر الماركسي الكبير حول الإسلام، مكسيم رودنسون، الذي قُتل والداه في معسكر أوشفيتز-بيركيناو، مقالًا فذًّا في مجلّة Les Temps Modernes في العام 1967 أبدى فيه هذه الملاحظة: "لم يكن يمكن أن لا تؤدي الرغبة في إقامة دولة يهودية، أو ذات غالبية يهودية في فلسطين العربية في القرن العشرين، إلى شكل من أشكال الاستعمار، وإلى نشوء ذهنية عنصرية (وهذا طبيعي تمامًا من الناحية السوسيولوجية)، وفي نهاية التحليل إلى حدوث مواجهة عسكرية بين المجموعتَين العرقيّتَين".
وبالمثل، دافع بيني موريس، وهو أيضًا مؤرّخٌ تصحيحي مثل شلايم، علنًا عن قرار القوات الصهيونية طرد الفلسطينيين. وفي مقابلة أجراها معه آري شافيت في العام 2004، وافق موريس، الذي كتب عن نشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، على الوصف الذي قدّمه شافيت عن ديفيد بن غوريون الذي كان رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في العام 1948 بأنه من "أنصار التهجير" – أو ما قد يسمّيه شلايم، مُرتكبًا للتطهير العرقي. وأقرّ موريس بأن "بن غوريون كان بالطبع من أنصار التهجير". وأضاف: "لقد أدرك تعذُّر إمكانية قيام دولة يهودية في ظل وجود أقلية عربية كبيرة ومعادية (لليهود).. لولا طرد الفلسطينيين، لما أمكن قيام دولة يهودية هنا". كما اختار مؤرّخ إسرائيلي تصحيحي ثالث، إيلان بابيه، هذا العنوان: "التظهير العرقي لفلسطين" The Ethnic Cleansing of Palestine لكتابه الصادر في العام 2007. وبذلك، قد تثير مواقف شلايم غضب المدافعين عن إسرائيل، لكن المطّلعين على تاريخها يستخدمون على نحو متزايد مصطلح "التطهير العرقي" المثير للجدل لوصف ما حدث.
ليس المُلفت في مذكرات شلايم آراؤه حول إسرائيل بقدر ما هو كيفية تطرّقه لمفهوم الهوية. لكن هذا المسار ليس خطًّا مستقيمًا. فعلى الرغم من أن شلايم ينكر على النخب الأشكنازية ازدراءها لليهود المزراحيين، فإنه يقرّ بأنه حين التحق بالجيش الإسرائيلي قبل اندلاع حرب حزيران (يونيو) 1967، كان ينظُر إليه على أنه "بوتقة الانصهار الوطني التي لطالما طمحت إليها الإيديولوجيا الصهيونية، لكنها نادرًا ما حقّقتها". صحيحٌ أن شلايم أصبح لاحقًا من أبرز منتقدي إسرائيل، إلا أنه جَنَح في مرحلةٍ ما من عمره نحو يمين الطيف السياسي، قبل أن تدفعه أوضاع ما بعد العام 1967 إلى تغيير رأيه، وقبل أن يتحوَّل الجيش الإسرائيلي "إلى قوّة شرطة همجية تابعة لسلطة استعمارية همجية".
يتحدّث شلايم بصدق كبير في مذكراته، لكن المفارقة هي أن ذلك يحجب دوافعه. فهو صريحٌ في وصف تأثير الهجرة إلى إسرائيل على عائلته، ولا سيما على أبيه يوسف، الذي يُعدّ المحور الخفي لقصته. ويصف شلايم حادثة وقعت في منتصف الخمسينيات حين كان جالسًا مع أصدقائه، فاقترب منه أبوه وراح يحدّثه بالعربية، لكن شلايم شعر بحرج شديد لأن يوسف لم يكلّمه بالعبرية التي كان يواجه صعوبة في تعلّمها، وبالكاد أجابه. وكتب شلايم بندم بالغ، قائلًا: "حين كنت طفلًا، لم أفكّر أبدًا كم كانت هذه الحادثة مهينة له".
في القسم الثالث من الكتاب، الذي يصف الوقت الذي أمضاه المؤلّف في ثالث "عوالمه الثلاثة"، يروي شلايم كيف أرسلته أمه ذات العزيمة القوية إلى بريطانيا لمتابعة دراساته، بسبب أدائه السيئ في المدرسة. وقد غادر إسرائيل في أيلول (سبتمبر) 1961 ولم يعد إليها لردحٍ طويل من الزمن. ووصف رحيله قائلًا: "غادرت أرض الميعاد من دون أن أتلفَّتَ إلى الوراء". لماذا هذه الحديّة؟ يشرح شلايم: "اختبرتُ، للمرة الأولى في حياتي، شعورًا عارمًا بالتحرّر. لقد أصبحت وحدي، منعتقًا من قيود المدرسة وضغوط مجتمع يهيمن عليه الأشكناز".
مع ذلك، يبقى القارئ في حيرة من أمره حول شيء واحد: إلى أي مدى يمكن اعتبار استياء شلايم من إسرائيل نتيجة وعيه المتزايد وعدم رضاه عن مجتمع قائمٍ على الظلم المُمارَس في حق الفلسطينيين؟ أو إلى أي درجة يُعتبر هذا الموقف متجذّرًا في ما اختبرته عائلته المفكّكة في إسرائيل؟
الإجابة عن هذَين السؤالَين ليست سهلة. فواقع أن عائلة شلايم أُرغمت على مغادرة العراق والذهاب إلى إسرائيل للانضمام إلى ما كان آنذاك مجتمعًا محليًا من اليهود المزراحيين المغبونين، أكسبه حسًّا مرهفًا أكثر لمحنة الفلسطينيين. لكن هذه النتيجة لم تكن فورية، ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت الطريقة التي حطّمت بها إسرائيل نفسية والده هي السبب وراء تبدّل موقف شلايم.
الواقع أن يوسف شلايم هو شخصية مأساوية في هذه المذكرات. لقد كان أكبر سنًّا بكثير من والدة شلايم مسعودة أو سعيدة، شديدة العزم، ونَعِمَ بالازدهار في العراق ولم يكن يومًا مقتنعًا بالانتقال إلى إسرائيل. كان زواجهما مدبّرًا، وعبثًا قاومت سعيدة زواجها بهذه السرعة. وحين انتقلت العائلة إلى إسرائيل، عجز يوسف عن التأقلم مع محيطه وفشلت مشاريعه التجارية القليلة. كذلك، انهارت مكانته الاجتماعية "بشكل هائل"، على حدّ تعبير ابنه. وسُرعان ما أصبح عاطلًا عن العمل يلازم البيت، واضطرّت سعيدة إلى البحث عن عمل لإعالة العائلة، فتعرّضت علاقتهما لضغوط كبيرة أدّت في نهاية المطاف إلى طلاقهما. ومن أجل إنقاذ آفي من هذا الجو الكئيب، ما كان من سعيدة إلا أن أرسلت صبي العائلة المدلّل إلى بريطانيا.
في الكتاب مقطع حصيف يصف فيه شلايم كيف شرحت له زميلة يهودية عراقية اسمها ميراف روزنفلد حداد التقى بها في جامعة أوكسفورد، فترات الصمت الطويلة التي وقع فيها والد آفي. رأت أن يوسف "وصل إلى بلد يعيش فيها يهود أوروبيون لا يملكون أدنى فكرة عن مدى ثراء حضارته أو عن موقعه ومكانته فيها. بل كانوا يميلون إلى اعتباره هو وأمثاله متخلّفين وغير متحضّرين. فما الهدف من التحدث مع هؤلاء الناس؟ حتى لو أراد الحديث، لم يكن يُتقن لغةً يتواصل بها معهم".
تلقى هذه الملاحظة الحاذقة أصداء قوية لدى أي شخص من الشرق الأوسط يتفاعل بصورة منتظمة مع الغربيين. في الواقع، وبعيدًا عن التعميم، يميل الكثير من الغربيين إلى رؤية الثقافة العربية من منظور العنف والأسى السائدَين في الدول العربية. ولا يعبّر موقفهم عن التعاطف بقدر ما هو شكل غامض من أشكال الازدراء. لكن القدرة المتأصّلة في ثقافات المنطقة على مراعاة الفوارق الدقيقة، وغنى ما لا ينطق به اللسان، والطقوس المعقدة التي تعبّر عن الكرم والتفاعل الاجتماعي، والتفسيرات المتوارية خلف أنصاف الأقوال والالتباسات، تكشف كلها عن حنكة متبصّرة لا يتمتع بها الغربيون في الكثير من الأحيان، ولا يرونها عادةً. وبذلك، يبدو منطقيًا جدًّا أن يكون مردّ انطواء يوسف على نفسه إلى هذا التصوّر الخاطئ العميق. ولكن، لا يمكن للمرء سوى أن يتساءل عما إذا كان هذا يساعد أيضًا على شرح مواقف ابن يوسف أيضًا.
*مايكل يونغ: محرّر مدوّنة "ديوان"، ومدير تحرير في "مركز مالكوم كير– كارنيغي الشرق الأوسط".