الدستور
الحروب التي تدور في المنطقة ورغم أنها مرعبة، إلا أن هناك صراعاً من نوع آخر أكثر رعباً وتدميراً، لدرجة أن كل ما يجري في المنطقة ليس أكثر من مخاض لصراع أكثر دموية.
الشرق الأوسط ومنذ عقود طويلة محصور بين رؤيتين، رؤية تقدم التوسع والايديولوجيا على السياسة، وأخرى ترى في الاستقرار وسيلة للتنمية والادماج، هتان الرؤيتان متضاربتان بشكل جذري، ويسيران بخطين متضادين بحيث لا يمكن توافقهما بغض النظر عن كل الخطابات المنمقة والجولات الدبلوماسية وحوارات التقارب.
لا يختلف اثنان على أن سياسة إسرائيل وإيران قائمة على عقيدة توسعية، تستند إلى أبعاد دينية وتاريخية، فكل منهما ترى بأن حدودهما الحالية حدود مؤقتة، فالأولى تسير وفق نهج توسيعي بطيء من خلال المستوطنات وإشعال الحروب هنا وهناك للسيطرة على مناطق جديدة بحجة ضمان أمنها، والأخرى تعمل على تصدير ثورتها وفرض سيادتها على مواطني دول أخرى بحجة الولاية الدينية على مذهب معين.
الرؤية العقائدية التوسعية لكل من إسرائيل وإيران تتصادم فعلياً مع رؤية أخرى في العالم العربي وهي الرؤية الساعية إلى الاستقرار والتركيز على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وترى أن فرضية «التنمية لتعزيز الاستقرار» هي الخيار الأفضل، لإخراج المنطقة من الصراعات الدائرة منذ أكثر من سبعة عقود.
الإشكالية الرئيسية تكمن في أن كلاً من إسرائيل وإيران نجحت بشكل أو آخر في تقسيم معسكر الاستقرار، فلا ينكر أحد أن هناك بعض الدول التي ترى في إدماج إسرائيل من خلال الاقتصاد والتنمية وسيلة منطقية وعملية لنزع فتيل الصراعات المستمرة، فيما نجحت إيران في اختراق بعض الدول العربية وجعلت منها رأس حربة لها.
ورغم طغيان الصراع بين دولتي الرؤية التوسعية حالياً، إلا أن مصير هذا الصراع التصادم الفعلي، بشكل ينتج عنه الهيمنة المطلقة لأحداهما على الشرق الأوسط، وقد تكون إسرائيل هي الأقرب لذلك، لأسباب عدة في مقدمتها الدعم الغربي الكبير، والتفوق العسكري والاقتصادي، والقبول الدولي بعكس إيران المحاصرة عالمياً.
كل ذلك يقود إلى الصراع الأكثر خطورة وتدميراً، فإسرائيل المهيأة لحسم صراع النفوذ مع إيران لصالحها، ستعود ضمنياً إلى التركيز على عقديتها التوسعية دون أي انشغالات جانبية مع إيران أو الأدوات التابعة لها، وفي هذا الحالة سنرى صراعاً آخر يصب في بوتقة واحدة وهو الصراع الأساسي القائم على التوسع العقائدي الذي يؤمن به وينتهجه جناح قوي وكبير في إسرائيل.
فوضى التهجير الناعم والقسري سيكون العنوان الأبرز للسياسة الإسرائيلية المقبلة في سبيل توسيع جغرافيتها وتغيير وجه الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها ونهجها، وفي هذه الحالة ورغم كل ما يقال عن الادماج والتفاهم لن يكون سوى مرحلة انتقالية تفصل بين حقبتين الأولى حقبة صراع النفوذ بين دولتين توسعيتين، والثانية حقبة الصراع بين الرؤية العقائدية التوسعية وبين رؤية الاستقرار والتنمية.
إسرائيل من الصعب عليها أن تتجاوز عقيدتها التوسعية لسبب بسيط وهو أن لديها عقدة متجذرة هي عقدة «عدم الشعور بالأمان»، والإحساس العميق والمستمر بالتهديد الوجودي الذي تشعر به منذ تأسيسها وحتى اليوم، وهذه العقدة تشكل جزءاً من العقلية السياسية والأمنية لإسرائيل، وتؤثر بشكل كبير على سياساتها الخارجية والدفاعية، بصرف النظر عمن يحكمها، ورغم جميع محاولات الإدماج ومسارات التنمية.
بالمحصلة، الواقع يقول إن لا مجال للتعايش بين رؤية قائمة على التوسع ورؤية قائمة على الاستقرار، وهذا ما يمثل وقوداً للصراع المقبل الذي سيكون مرعباً بشكل نرى فيه ما يجري حالياً ليس سوى مخاض يسير لولادة صراع مدمر هدفه السيطرة وتغيير الواقع الجغرافي في المنطقة.