الغد
تشهد المنطقة منذ أشهر حالة من السيولة السياسية والعسكرية تتداخل فيها الحسابات المحلية والإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق، بحيث بات من الصعب الفصل بين ما هو أمني خالص وما هو سياسي داخلي، وخصوصاً في الحالة الإسرائيلية حيث تتقاطع الحرب في غزة مع أزمة حكم عميقة يعيشها بنيامين نتنياهو وحكومته. في هذا السياق يبرز سؤال جوهري عمّا إذا كان الانتقال إلى مرحلة أقل كثافة في غزة يجري فعلاً مقابل إبقاء الجبهة اللبنانية مشتعلة، أو على الأقل مهيأة للاشتعال، بما يسمح لنتنياهو بالحفاظ على حالة الطوارئ التي يحتاجها سياسياً للبقاء في السلطة وتأجيل محاكمته، وإعادة إنتاج نفسه باعتباره «قائد زمن الحرب» لا مجرد رئيس حكومة فشل في إدارة أخطر أزمة في تاريخ إسرائيل الحديث.
يواجه نتنياهو وضعاً داخلياً غير مسبوق من حيث هشاشة الشرعية السياسية. فحكومته تقوم على تحالف مع قوى يمينية ودينية متطرفة تربط استمرار دعمها له باستمرار الحرب ورفض أي تسوية تُقرأ باعتبارها تنازلاً أو اعترافاً بالفشل. في الوقت نفسه، يقف نتنياهو أمام ملفات فساد ثقيلة، وهو يدرك أن خروجه من رئاسة الحكومة يعني عودة القضاء إلى العمل بكامل زخمه، وانتهاء الحماية السياسية التي توفرها له حالة الطوارئ. لذلك أصبحت الحرب بالنسبة له أداة إدارة داخلية بقدر ما هي أداة عسكرية، وأصبح استمرارها شرطاً لبقاء التوازن الهش داخل الائتلاف الحاكم، وتأجيل لحظة المحاسبة السياسية والقضائية.
الانتقال إلى ما يُسمّى «المرحلة الثانية» في غزة يحمل في طياته خطراً وجودياً على هذا التوازن. فهو يعني عملياً تخفيض مستوى العمليات العسكرية، والاعتراف الضمني بأن الهدف المعلن بالقضاء الكامل على حماس لم يتحقق، والانتقال إلى نمط إدارة أمنية طويلة الأمد بدلاً من الحسم العسكري السريع. مثل هذا التحول يفتح الباب فوراً أمام أسئلة قاسية داخل إسرائيل: من المسؤول عن الإخفاق؟ ولماذا دُمّر هذا الكم الهائل من غزة من دون تحقيق الأهداف؟ ومن يتحمل مسؤولية الفشل في منع هجوم السابع من أكتوبر أصلاً؟ هذه الأسئلة إذا فُتحت بجدية تعني عملياً نهاية نتنياهو السياسية، وربما بداية نهايته القانونية.
في هذا السياق، تبدو الجبهة اللبنانية بمثابة مخرج سياسي محتمل، أو على الأقل وسيلة لتأجيل الاستحقاق. فالتصعيد مع حزب الله يسمح بإعادة إنتاج خطاب التهديد الوجودي، ونقل مركز الثقل من غزة، حيث بدأت صورة الحرب تتآكل دولياً وإسرائيلياً، إلى الشمال حيث الخطر أكثر قابلية للتسويق داخلياً. حزب الله في الوعي الإسرائيلي ليس مجرد خصم، بل تهديد إستراتيجي يرتبط بإيران وبمعادلات إقليمية كبرى، وبالتالي فإن أي مواجهة معه يمكن تصويرها كمعركة دفاعية مصيرية تبرر استمرار حالة الطوارئ، وتجميد الخلافات الداخلية، وتأجيل الانتخابات، وتعليق النقاش حول المسؤوليات.
لا يعني ذلك أن هناك بالضرورة صفقة دولية واضحة تقايض تخفيف الحرب في غزة بالسماح لإسرائيل بالحرب على حزب الله، لكن هناك على الأقل توازن مصالح غير معلن. الولايات المتحدة والدول الغربية تريد خفض الكلفة الإنسانية والسياسية في غزة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد انفجاراً إقليمياً واسعاً في لبنان قد يجر إيران ويهدد استقرار المنطقة والأسواق العالمية. لذلك تمارس ضغطاً على إسرائيل لخفض التصعيد في غزة، لكنها تغض الطرف نسبياً عن استمرار الاحتكاك المحدود في الشمال طالما بقي دون مستوى الحرب الشاملة. هذا يمنح نتنياهو هامش مناورة: يستطيع إبقاء التوتر مشتعلاً، وتصعيده إعلامياً وسياسياً، من دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء الأميركية، مستفيداً من الغموض الإستراتيجي ومن لعبة الحافة التي تُبقي الجميع في حالة ترقب.
غير أن هذه الإستراتيجية قائمة على منطق الهروب إلى الأمام، وهي محفوفة بمخاطر هائلة. فحرب شاملة مع حزب الله ليست كحرب غزة، بل ستكون حرباً أثقل بكثير على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وأكثر كلفة اقتصادياً وبشرياً وعسكرياً، وقد تكشف هشاشة إسرائيل بدلاً من أن تعيد إنتاج صورتها الردعية. كما انه أيضا ستكشف عن القوة الفعلية لحزب الله سواء كانت رادعة او ضعيفة، كما أن المجتمع الإسرائيلي نفسه يظهر مؤشرات تعب وتآكل ثقة في القيادة السياسية، ويصعب افتراض أن الجمهور سيقبل إلى ما لا نهاية بسياسة الحرب الدائمة بوصفها بديلاً عن الحلول السياسية والمحاسبة الداخلية.
في المحصلة، يمكن القول إن نتنياهو يستخدم الحرب كأداة بقاء سياسي أكثر مما يتعامل معها كوسيلة لتحقيق حل إستراتيجي مستدام أو لإعادة تشكيل البيئة الأمنية على المدى الطويل. فهو يراهن على أن إدارة الأزمات وتأجيلها أقل خطراً عليه من مواجهتها مباشرة، لأن أي توقف فعلي للحرب يفتح فوراً باب المحاسبة السياسية والقضائية، ويعيد طرح الأسئلة المؤجلة حول الإخفاقات والمسؤوليات.
غير أن هذا الرهان يقوم على افتراض هش، مفاده أن مستوى التصعيد يمكن التحكم به إلى ما لا نهاية، وأن المجتمع الإسرائيلي والحلفاء الغربيين سيواصلون تحمّل كلفته السياسية والأخلاقية والعسكرية. فإذا خرج التصعيد عن السيطرة، أو إذا قدّرت العواصم الغربية أن استمرار دعمه أصبح عبئاً يهدد مصالحها وصورتها، فإن شبكة الأمان التي يعتمد عليها قد تتفكك سريعاً. عندها قد يتحول نتنياهو من «قائد في زمن الحرب» إلى رمز لفشلها، وتتحول سياسة البقاء عبر الحرب من أداة إنقاذ مؤقتة إلى سبب مباشر في سقوطه السياسي.