عقدة الشعور بالنقص وراء مواصلة العدوان*د. صلاح جرّار
الراي
أصبح واضحاً ومعلوماً لجميع من يتابع الأحداث الجارية في منطقتنا العربية وفي فلسطين ولبنان على وجه الخصوص، أن الصهاينة لم يحققوا من عدوانهم المتواصل على قطاع غزّة والضفّة الغربيّة والأراضي اللبنانية سوى مزيد من القتل والتدمير والخراب، وأنّهم يسوّغون هذا السلوك بما يسمّونه خططاً يهدفون إلى تنفيذها هنا وهناك وبمساعدة أميركية وأوروبيّة، ولستُ أراها خططاً حقيقية قابلة للتنفيذ كما يتوهّمه كثير من العرب، إنّما هي لا تعدو أن تكون تهديدات يلوّحون بها لإرهاب الفلسطينيين ومن يساندهم من العرب والمسلمين أو غيرهم، وما هذه التهديدات والمبالغة في الحديث عن الخطط الصهيونية والأميركية سوى جزء من الحرب النفسيّة التي يشنّها الصهاينة والأميركان على الشعب الفلسطيني والشعوب العربيّة، لأنّ الدوافع الرئيسية والأصلية وراء هذه الممارسات الصهيونية هي دوافع نفسيّة أوّلاً وأخيراً، وأنّ المبالغة اللامحدودة في القتل والتدمير والإبادة واستخدام أقصى ما يمتلكونه من القوّة والبطش ما هي إلاّ لتحقيق أهدافهم النفسيّة. وتتمثل هذه الأهداف في العمل على تحقيق الشعور بالأمن والاستقرار النفسي لوجودهم في محيط يختلفون عنه في كلّ شيء: لغة وتاريخاً وعقيدة وفكراً وثقافة وعادات وأصولاً عرقية ولون بشرةٍ وغير ذلك.
والهدف النفسيّ الثاني لهذه الممارسات التي يقوم بها الصهاينة في عدوانهم هو أن يحققوا لأنفسهم هيبة في نفوس العرب وأن يرفعوا من مكانتهم في عيون الناس من خلال استعراض قدراتهم غير المحدودة على فعل ما يريدون وإتباع ذلك بالحديث عن مخطّطات ومشاريع يعتزمون تنفيذها بحريّة مطلقة، ويتظاهرون بأنّه لا يستطيع أحدٌ أن يمنعهم أو يخالف مشيئتهم في تنفيذ مخططاتهم.
أما الهدف النفسيّ الثالث من هذه الممارسات الهمجيّة والوحشية فهو الانتقام ممّا لحق بهم من العار في السابع من تشرين الأول (أكتوبر 2023)، ونظراً لأنّ هذا العار لا يمكن محوه فإنهم يبالغون في مواصلة الانتقام. والهدف النفسي الرابع وهو متصل بسعيهم إلى صناعة هيبة لهم في نفوس الناس وهو إفراغ حقدهم المتراكم عبر العصور التاريخية على البشريّة، وهو حقدٌ شديد السّواد وجدوا فرصة للتعبير عنه بما يحظون به من مساندة أميركية وغربيّة مطلقة ودعم بالسلاح والمال والرجال.
والهدف الخامس، ولعلّه هو الأهمّ، وهو مرتبطٌ بالهدف الأوّل الذي يدور حول سعيهم لتحقيق الأمن، وهو إدراكهم في أعماق أنفسهم لسنّة التاريخ التي تفضي بحتمية زوال الاحتلال مهما طال، ولذلك نراهم يكررون دائماً أنّ حربهم (عدوانهم) هي حربٌ وجوديّة.
لذلك فإنّ هذا العدوان الصهيوني الغاشم والمتواصل تقف وراءه مجموعة من العقد النفسية المركّبة والمتداخلة: عقدة الخوف من المحيط، وعقدة الشعور بالنقص، وعقدة الحقد والرغبة الجامحة في الانتقام. وهذه العقد لا يمكن التغلّب عليها بالقصف والقتل والحرق والتدمير والتهجير والإبادة لكل من يشكل خطراً على وجودهم غير الشرعي، لأنّ هذه الجرائم تزيد من تعميق هذه العقد وترسيخها، وتدفع العرب والفلسطينيين إلى العمل بكلّ الوسائل للتخلّص من هذا العدوّ الذي لا يمكن العيش معه أو مجاورته أو مصالحته أو الاطمئنان إليه بحال من الأحوال.
إنّ هدف تحقيق الشعور بالأمن الذي يسعى إليه المحتلّون من خلال القتل والتدمير والإبادة والتهجير هو مطلبٌ عسير يستحيل تحقيقه لأنّ عقدة الخوف من المحيط العربي مزروعة ومتجذّرة في أعماقهم لإدراكهم في قرارة أنفسهم أنّهم لصوص وسرّاق وطارئون ومحتلّون وأن أصحاب الأرض لا يمكن لهم التسليم بالاحتلال أو التفريط بالأرض، وأنّ القوّة التي يمتلكها هؤلاء المحتلّون والدعم المطلق الذي يتلقّونه من الغرب قد يحقّق لهم أمناً مؤقّتاً وليس أمناً دائماً أو مطلقاً، وأنهم سوف يبقون في قلقٍ دائم من مفاجأة تطلع لهم من هنا أو هناك، ولذلك نجدهم في مفاوضات وقف إطلاق النار التي تجري بينهم وبين من يشتبكون معهم يضعون شروطاً غير منطقية لكنّها تعبّر عن هذا القلق الدائم.
أمّا هدف التغلّب على عقدة الشعور بالنقص ومحاولة فرض هيبةٍ لهم في نفوس من يخضعون للاحتلال أو نفوس العرب عامّة، فهو هدفٌ غير قابل للتحقيق إطلاقاً، فإذا خاف الفلسطينيُّ أو العربيّ عندما تهاجمه الطائرات أو تسقط عليه الصواريخ، فإنّه لا يخاف من الجنديّ الصهيوني نفسه ولا حتّى من كتيبة كاملة إنّما يخاف من السلاح الذي بين أيديهم، ولم أشاهد أو أقرأ أو أسمع يوماً أنّ فلسطينياً طفلاً كان أو شاباً أو عجوزاً أو امرأةً أعار اهتماماً لجنديّ صهيوني، لكنه يحذر فقط من سلاحه، ويعزّز حقيقة هذه الاستهانة بالجنود الصهاينة أنّهم جنودٌ يتحاشون بكلّ الوسائل مواجهة أبطال المقاومة، وإذا ما تورّطوا بمواجهة حقيقية مع أيّ عربيّ مسلّح فإنّهم يُهزمون ويرتعدون خوفاً أو يفرّون إلى دباباتهم أو حصونهم أو يصابون بأمراض نفسيّة، ولذلك فإنّهم يوجهون فوهات بنادقهم ورشاشاتهم ومدافعهم وحمولات طائراتهم الحربيّة إلى المدنيين العزل، وهذا سلوك يضيف إلى بشاعة صورتهم ومن شعور الفلسطيني بازدرائهم وعدم اعترافه بأي مكانة لهم، فكيف يمكن لمن يتّصف بالجبن والوضاعة أن يفرض هيبته على من جلبوا على الإباء والكرامة والشجاعة وعزّة النفس.
وخلاصة القول إنّ الكيان الصهيوني المحتلّ مهما استخدم من الأسلحة، ومهما تلقّى من الدعم الغربيّ، ومهما ارتكب من المجازر ومهما زاد من قصفه وجرائمه، ومهما ملأ الأرض من دباباته والجو من طائراته، ومهما اعتقل من الفلسطينيين والعرب، ومهما رضخ لتهديداته من الناس، ومهما وقع في شباكه من المخبرين، ومهما أنشأ من مستوطنات، ومهما توسّع في الأراضي العربيّة، ومهما نصب من المكائد، ومهما أشاع من الأكاذيب، ومهما تظاهر بالاستعلاء والغطرسة والعنجهية الكاذبة، فإنّه لن يحقّق مسعاه في الشعور بالأمن المطلق والدائم، ولن ينعم بالاستقرار في أيّ مكان من الأرض العربيّة، ولن ينجح في أن تكون له مهابةٌ أو خوفٌ أو احترام في نفس أيّ إنسان فلسطينيّ أو عربيّ، ولن يطيب له مقام أو عيشٌ في أيّ أرضٍ عربيّة. ولذلك فإنّه لا جدوى من مواصلة عدوانه.