عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Feb-2021

لماذا لم يكن عصر التنوير هو عصر العقل؟

 الغد-ترجمة: موفق ملكاوي

 
هنري مارتن لويد*
على جانبي الأطلسي، أصدرت مجموعات من المثقفين دعوة إلى الاستنفار، مبينين أن القلعة المحاصرة التي تحتاج إلى الدفاع عنها اليوم هي حماية العلم والحقائق والسياسة القائمة على الأدلة. هؤلاء الفرسان البيض التقدميون، مثل الطبيب النفسي ستيفن بينكر وعالم الأعصاب سام هاريس، يدينون الظهور الواضح للعواطف والشغف والخرافة في السياسة. يقولون لنا إن حجر الأساس للحداثة هو القدرة البشرية على كبح قوى التخريب بعقل هادئ، وإن ما نحتاجه الآن هو “إعادة تشغيل” عصر التنوير.
من اللافت أن هذه الصورة الوردية لما يسمى “عصر العقل” تشبه إلى حد كبير الصورة التي قدمها منتقدوها الساذجون. تنبع النظرة التشاؤمية للتنوير من فلسفة هيغل، وصولا إلى النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في منتصف القرن العشرين. يحدد هؤلاء الكتاب أمراض الفكر الغربي في مساواتها العقلانية والعلم الوضعي، مع الاستغلال الرأسمالي، وهيمنة الطبيعة، وحتى النازية والمحرقة في حالة ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو.
لكن في الاعتقاد أن التنوير كان حركة عقلية معارضة للعواطف، فإن المدافعين والنقاد هم وجهان لعملة واحدة. خطأهم الجماعي هو ما يجعل مقولة “عصر العقل” قوية للغاية.
العواطف – التأثيرات، الرغبات، الشهوات – كانت رائدة للفهم الحديث للعاطفة. منذ الرواقيين القدماء نظرت الفلسفة بشكل عام إلى العواطف باعتبارها تهديدات للحرية؛ فالضعفاء عبيد لها، والأقوياء يشددون على سببهم وإرادتهم، وهكذا يظلون أحرارا. مساهمة عصر التنوير كانت إضافة العلم إلى صورة العقل هذه، وإضافة الخرافات إلى مفهوم الاستعباد العاطفي.
القول إن عصر التنوير هو حركة العقلانية ضد العاطفة، والعلم ضد الخرافات، والسياسات التقدمية ضد القبلية المحافظة هو قول خاطئ للغاية. هذه الادعاءات لا تعكس النسيج الغني للتنوير نفسه، والذي وضع، بشكل ملحوظ، قيمة عالية لدور الحساسية والشعور والرغبة.
بدأ عصر التنوير مع الثورة العلمية في منتصف القرن السابع عشر، وبلغ ذروته في الثورة الفرنسية مع نهاية القرن الثامن عشر. في مطلع القرن الثامن عشر، كان هيغل واحدا من أوائل البادئين بالهجوم حين قال إن العقلانية التي ابتكرها إيمانويل كانط – الفيلسوف التنويري بامتياز – أنتجت مواطنين مغتربين وفاترين وبعيدين عن الطبيعة، وإنها النتيجة المنطقية القاتلة للعقلانية الفرنسية.
لكن عصر التنوير كان ظاهرة متنوعة. معظم فلسفتها كانت بعيدة كل البعد عن الكانطية، وكذلك عن نسخة هيغل من كانط. الحقيقة أن هيغل والرومانسيين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر، والذين اعتقدوا أنهم تحركوا بروح جديدة من الجمال والشعور، استدعوا “عصر العقل” ليكون بمثابة كابح لمفهومهم الذاتي. موضوعهم الكانتي كان مجرد “فزّاعة”، وعقلانيتهم المتزمتة كانت طريقهم للتنوير.
في فرنسا، كان الفلاسفة متحمسين بشكل استثنائي للعواطف، ويشكون كثيرا بالأفكار التجريدية. وبدلا من التمسك بهذا السبب الذي كان الوسيلة الوحيدة لمحاربة الخطأ والجهل، ركز التنوير الفرنسي على الإحساس، فالعديد من المفكرين في عصر التنوير دعوا إلى نسخة منطقية ومتسلسلة للعقلانية، تكون متواصلة مع خصوصيات الإحساس والخيال والتجسيد. وفي الغالب، ضد الانطوائية في الفلسفة التأملية، تحولت الفلسفات إلى الخارج، وأبرزت الجسد باعتباره نقطة الانخراط العاطفي مع العالم، ما قد نذهب معه إلى حد القول إن عصر التنوير الفرنسي حاول إنتاج فلسفة بلا سبب.
بالنسبة للفيلسوف إيتيان بونوت دي كونديلاك، على سبيل المثال، لم يكن من المنطقي أن نتحدث عن السبب على أنه “كلي”. بالنسبة إليه فجميع جوانب الفكر الإنساني نمت من حواسنا، وتحديدا، القدرة على الانجذاب نحو الأحاسيس الممتعة والابتعاد عن الأحاسيس المؤلمة. هذه الحوافز أدت إلى إثارة المشاعر والرغبات، ثم إلى تطوير اللغات، وإلى ازدهار العقل بالكامل.
لتفادي الوقوع في فخ التعبير الزائف، والحفاظ على أقرب مكان ممكن من التجربة الحسية، كان كونديلاك من المعجبين باللغات “البدائية” ويفضلها على تلك التي تعتمد على أفكار مجردة. بالنسبة إليه، تطلب العقل السليم من المجتمعات تطوير طرق “طبيعية” أكثر للتواصل، ما يعني أن العقلانية هي ضرورة جمعية: فهي تختلف من مكان لآخر، بدلا من كونها عالمية غير متمايزة.
دينيس ديدرو كان شخصية طوطمية أخرى من عصر التنوير الفرنسي، وهو معروف جيدا كمحرر الموسوعة الضخمة (1751-1772)، وقد كتب العديد من مقالاته التخريبية والمفارقة، وهي استراتيجية مصممة، جزئيا، لتجنب الرقابة الفرنسية. لم يكتب ديدرو فلسفته على شكل أطروحات مجردة، فإلى جانب فولتير وجان جاك روسو وماركيز دي ساد، كان ديدرو سيد الرواية الفلسفية (بالإضافة إلى الخيال التجريبي والإباحي والهجاء والنقد الفني). قبل قرن ونصف القرن من كتابة رينيه ماغريت أيقونته في خيانة الصورة “هذا ليس أنبوبا”، كتب ديدرو قصة قصيرة بعنوان “هذه ليست قصة”.
آمن ديدرو بفائدة العقل في السعي وراء الحقيقة، ولكن كانت لديه حماسة قوية للعواطف، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأخلاق وعلم الجمال. اعتقد ديدرو، مع عدد كبير من أعلام التنوير الاسكتلندي مثل ديفيد هيوم، أن الأخلاق ارتكزت على التجربة المعنوية، وادعى أن الحكم الأخلاقي كان متوافقا بشكل وثيق مع الأحكام الجمالية بطريقة لا يمكن تمييزه عنها. بمعنى أننا نحكم على جمال اللوحة أو المناظر الطبيعية أو وجه حبيبنا تماما كما نحكم على أخلاق شخصية في رواية أو مسرحية أو حياتنا الخاصة، أي أننا نحكم على الخير والجمال بشكل مباشر وبدون حاجة سببية. بالنسبة إلى ديدرو، إذن، فالتخلص من المشاعر سيؤدي إلى خطيئة، فالشخص الذي يفتقر إلى القدرة على التأثر، إما بسبب غياب العواطف أو غياب الحواس، سيكون وحشا من الناحية الأخلاقية.
ومع ذلك، فاحتفال التنوير بالحسّ والشعور لم يستلزم رفضا للعلوم. على العكس تماما، فقد كان الفرد الأكثر حساسية، أو الشخص صاحب أكبر قدر من الحساسية، يعتبر الأكثر ملاحظة للطبيعة. المثال الأكثر وضوحا هنا هو الطبيب المتناغم مع إيقاعات جسم المريض وأعراضها الخاصة. في المقابل كان هناك الطبيب الديكارتي المتعارض مع التقدم العلمي والذي رأى الجسم آلة مجرّدة، أو أولئك الذين تعلموا الطب عن طريق قراءة أرسطو لكن ليس بمراقبة المرضى. لذلك لم تكن الشكوك الفلسفية في العقل رفضا للعقلانية بحد ذاتها، بل كانت رفضا للعقل بمعزل عن الحواس، وتم عزله عن الجسم المتهور. كانت الفلسفات في الواقع منسجمة مع الرومانسيين أكثر مما كان يعتقد الرومانسيون.
غالبا ما يكون التعميم حول الحركات الفكرية عملا خطيرا. التنوير كانت له خصائص وطنية مميزة، وحتى داخل الدولة الواحدة لم يكن متجانسا. بعض المفكرين تمسكوا بفصل صارم للعقل عن العاطفة، وتمايز البداهة على الإحساس، وقد كان كانط الأكثر شهرة في هذا المفهوم. لكن، في هذا السياق، كانط كان معزولا عن العديد من موضوعات عصره، إن لم يكن معظمها. في فرنسا على وجه الخصوص لم تكن العقلانية معارضة للإحساس، بل كانت تستند إليه وتتماشى معه. كانت الرومانسية إلى حد كبير استمرارا لموضوعات التنوير، وليس كسرا أو إلغاء لها.
إن أردنا أن ننهي الانقسامات في اللحظات التاريخية المعاصرة، يجب أن نتخلى عن الرواية التي كان العقل وحده يمسك بها. الحاضر يوجه الانتقادات، لكنه لن يقدم أي فائدة إذا كان قائما على أسطورة حول ماض مجيد لم يكن يوما.
 
*هنري مارتن لويد: زميل أبحاث في الفلسفة بجامعة كوينزلاند في أستراليا، ومؤلف “نظام ساد الفلسفي في سياق التنوير (2018)”، ومحرر مشارك مع جوف بوتشر “إعادة التفكير في التنوير: بين التاريخ والفلسفة والسياسة (2018)”. https://aeon.co/