الغد-مايكل نايتس؛ بيير موركوس*؛ تشارلز ثيبوت – (معهد واشنطن) 5/3/2021
في 18 شباط (فبراير)، أعلن الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، عن قرارٍ بزيادة حجم بعثة الحلف في العراق “من 500 فرد إلى نحو 4.000. وبرغم إشارته إلى أنّ عمليات النشر هذه ستكون “قائمة على الظروف”، و”تدريجية”، وتخضع لتفويض بغداد، إلا أن أعداد القوات كانت العنصر الوحيد من إعلانه الذي تناولته التقارير على نطاق واسع داخل العراق، مما أدى إلى ضغوط سياسية سريعة على الحكومة لتوضيح الزيادة الحادة على ما يبدو.
وفي الواقع، لم يُخطَّط لأي “طفرة” وشيكة لحلف “الناتو” في العراق، بل هناك انفتاح أكبر ونية عامة للقيام تدريجيًّا بتوفير المزيد من المستشارين القادرين على مساعدة السلطات المحلية في إصلاح القطاع الأمني. وعند التعامل مع هذه المبادرة بشكل مناسب ودمجها مع جهود أخرى، يمكن أن تخلق فرصاً جيدة للتعاون الأمني الهادئ والمستمر الذي يساعد على تقوية الدولة العراقية، وتطوير العلاقات العسكرية متعددة الجنسيات بما يتجاوز الحملة ضد تنظيم “داعش”، وتوزيع عبء الدعم على نطاق واسع بين حلفاء الولايات المتحدة.
متطلبات الإصلاح في العراق
لدى العراق عدد كبير من الاحتياجات المتعلقة بإصلاح القطاع الأمني ومجموعة من الشركاء الذين يساعدون في تلبيتها. والتحديات الأكثر إلحاحاً التي يواجهها القطاع اليوم هي:
* قصور في أداء الوزارات الأمنيّة والمؤسسات الأخرى التي أضعفها الفساد والتغلغل الحزبي وعدم كفاية التدريب والتنظيم.
* تَضاؤل الموارد الماليّة، مما يُشير إلى الحاجة إلى الترشيد.
* ازدواجية الأدوار والمهام لمختلف وكالات الاستخبارات وقوات الأمن (على سبيل المثال، القوات المسلحة التابعة لوزارة الدفاع، وقوات الشرطة التابعة لوزارة الداخلية، و”جهاز مكافحة الإرهاب”، و”قوات الحشد الشعبي”).
* غياب القدرة الاحتياطية الوطنية، مما أدى إلى تعبئة دائمة لجميع قوات الأمن بغض النظر عن الاحتياجات الحالية.
وتُدرك بغداد نقاط الضعف في القطاع، والتي تجلت بشكل واضح عندما استولى “داعش” على ثلث البلاد في العام 2014. وقد ساعدَ مختلف الشركاء العراق على تعويض بعض مكامن القصور هذه. ويوفّر التحالف بقيادة الولايات المتحدة -الذي يُعرف رسميًّا بـ”مجموعة المستشارين العسكريين” المؤلَّفة من ثلاث عشرة دولة- الدعم القتالي والاستشارة غير القتالية على مستوى العمليات للمساعدة في تعقب خلايا تنظيم “داعش”. ويقدم “الناتو” والاتحاد الأوروبي المشورة الاستراتيجية إلى وزارتي الدفاع والداخلية في العراق على التوالي. وتحافظ بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، على برامج تدريب عسكرية ثنائية في سياق القتال ضد تنظيم “داعش”. كما قدمت “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” و”برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” التدريب على إصلاح القطاع الأمني وإصلاح قطاع العدل، لتعزيز الشرطة المحلية على سبيل المثال. ويُعد مكتب مستشار الأمن القومي المحاور العراقي الرئيسي لهؤلاء الشركاء المتنوعين، وهو الذي نسق منذ فترة طويلة أنشطة إصلاح القطاع الأمني بالشراكة مع مكتب رئيس الوزراء.
تاريخ موجز لحلف “الناتو” في العراق
بدأ الانتشار الأول لبعثة “حلف شمال الأطلسي” في العراق -والذي هو وحدة صغيرة قوامها أقل من مائة مستشار- في العام 2004 وانتهى في العام 2011 عندما انسحبت القوات الأميركية. وخلال تلك الفترة، دربت البعثة أكثر من 5.000 من أفراد الجيش العراقيين و10.000 من عناصر الشرطة. واستأنف حلف “الناتو” تدريجيّاً أنشطته التدريبية وبناء القدرات في العام 2014 بناءً على طلب بغداد، أولاً من الأردن (في “مركز الملك عبد الله الثاني لتدريب العمليات الخاصة”)، ولاحقاً عبر ثمانية أفراد نُشروا في بغداد في العام 2017. وفي الأثناء، انضمّ الحلف إلى “التحالف الدولي لهزيمة ‘داعش’”، وأمّنَ الدعم المباشر للعمليات من خلال أسطول طائرات الاستطلاع “إيواكس”، التي تديرها في الغالب ألمانيا.
وبعد تَفكُّك ما تُسمى بـ”خلافة” تنظيم “داعش” والاستعادة التدريجية للسيطرة السيادية على الأراضي العراقية، قرّر قادة “الناتو” في العام 2018 إطلاق بعثة تدريبية جديدة، هي “بعثة الناتو في العراق”، بناءً على طلب بغداد. وتولت كندا قيادة هذه المهمة خلال العامين الأولين، حيث ساهمت بما يصل إلى 250 فرداً قبل تسليمها القيادة إلى الدنمارك في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. وقبل أن تؤدي جائحة “كوفيد19” إلى إرغام حلف “الناتو” على تجميد أنشطته التدريبية، ضمت البعثة ما يقرب من 500 فرد، مع عدد كبير من المساهمات من بريطانيا والدنمارك وإسبانيا وتركيا.
خيارات “بعثة الناتو في العراق”
خلال اجتماع وزراء الدفاع في شباط (فبراير) 2020، قرّر حلف “الناتو” دراسة توسيع “بعثة الناتو في العراق” من أجل تلبية متطلبات العراق للمساعدة في إصلاح القطاع الأمني تحت عنوان جديد، وكذلك لمواجهة ضغوط إدارة ترامب لمزيد من تقاسم الأعباء. وأدى تفشي جائحة “كوفيد19” وهجمات الميليشيات على القواعد المتعددة الجنسيات إلى إبطاء التخطيط العسكري إلى حدٍّ كبيرٍ خلال العام التالي، لكن الإعلان الأخير يشير إلى أن “الناتو” ما يزال ملتزماً بتلبية طلبات العراق في وقت لاحق من العام 2021 وما بعده. وتُشير تعليقات ستولتنبرغ إلى توفر الخيارات الآتية حاليّاً والتي حظيت بدعم عراقي:
* التوسُّع إلى قيادات القوات الفردية: في الوقت الحاضر، تعمل “بعثة الناتو في العراق” في مقرّ وزارة الدفاع ففط وفي “المنطقة الدولية” ببغداد. وقد تتمثّل الخطوة التالية بزيادة طفيفة في عدد المستشارين و”العناصر التمكينية” (أفراد الدعم) من أجل التعاطي مع الجيش والقوات الجوّيّة والقوات البحرية والقوات الأخرى بشكلٍ فردي -ربما حوالي 150 فرداً هذا الصيف و 70 فرداً آخر في الخريف.
* التوسُّع إلى الوزارات الأخرى: حين أشار ستولتنبرغ في 18 شباط (فبراير) إلى إمكانية توسيع “بعثة الناتو في العراق” مهمتها إلى “المزيد من مؤسسات الأمن العراقية”، كان يشير إلى احتمال التعاون مع وزارة الداخلية ووزارة العدل في الفترة 2022-2023، وربما وزارات أخرى في السنوات التالية.
* التوسُّع خارج بغداد: عندما ذكر ستولتنبرغ تعاوُن “بعثة الناتو في العراق” في “مناطق خارج بغداد”، فإنه أشار إلى احتمال العمل مع “وزارة شؤون البيشمركة” وغيرها من الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان العراق.
ولم يكن القصد من العدد النهائي البالغ 4.000 عنصر في البعثة أن يشكّل هدفاً قريب المدى. وهو يرتبط بالأحرى بمستويات القوات التي سيحتاج حلف “الناتو” إلى الالتزام بها إذا سَحَبت “مجموعة المستشارين العسكريين” بالكامل عناصر التمكين المسؤولة حاليًّا عن الاتصالات والدعم الطبي وحماية القوات والمهام الأخرى. وإذا بقيت مستويات عناصر “مجموعة المستشارين العسكريين” كما هي، فسيحتاج الشركاء الدوليون إلى معالجة المشكلة التي تلوح في الأفق والمتمثلة في مساحة العيش المتاحة لـ”بعثة الناتو في العراق” التي سيزداد حجمها في العام 2022. وبالمثل، قد يكون توسيع أنشطة تدريب الناتو خارج بغداد أمراً صعباً نظراً لإغلاق القواعد الأميريكية البعيدة في العام الماضي.
التداعيات السياسية
لم تُحقّق “بعثة الناتو في العراق” الكثير خلال فترة ولايتها القصيرة، ولذلك حان الوقت “لإطلاق العنان”. وهناك عدة مبادئ يجب أن توجه التطوّرَ المستقبلي للبعثة:
* توضيح طبيعة بعثة الناتو لأصحاب المصلحة العراقيين كافة: إن الاستجابة المحلّيّة لإعلان 18 شباط (فبراير) هي تذكير بأنّ أصداء الأخبار المتعلّقة بحلف شمال الأطلسي قد تتردّد في داخل العراق بطريقة مثيرة للقلق إذا لم يجرِ التحكّم بها بعناية. يجب أن يفهم أصحاب المصلحة أيضاً أنه لا يمكن لحلف الناتو أن يحلّ محل بعثة مكافحة الإرهاب التي تقودها “مجموعة المستشارين العسكريين” أو التدريب التكتيكي المقدم بشكل ثنائي. ومهما كان الشكل الذي قد يتّخذه تطوُّر “بعثة الناتو في العراق”، ستبقى هذه البعثة جزءاً واحداً من مجموعة الجهود الدولية لدعم قوات الأمن العراقية.
* زيادة التواصل سرّاً، والحدّ من التواصل العلني: يجب تكثيف التواصل البعيد عن الأنظار مع الحكومة العراقية، ويجب إبلاغ بغداد بجميع الأخبار المتعلقة بـ”بعثة الناتو في العراق” قبل الإعلان عنها علناً.
* تطوير خططٍ تمتدّ إلى عدة سنوات: ينمو الزخم من أجل وضع خططٍ طويلة الأمد لكلَّ عامَين من قيادة “بعثة الناتو في العراق” (التي يترأسها حالياً اللفتنانت جنرال بيير أولسن من الدنمارك). وسيشكّل ذلك طريقةً ذكيةً للإثبات لبغداد أنّ التعامل مع “الناتو” يستحقّ تَكبُّد التكلفة السياسية المحلّيّة بالنظر إلى أهمية الالتزامات الكبيرة المعروضة على المدى المتوسط. ويمكن أن تكون اتفاقية متعددة السنوات بمثابة جسر إلى الحكومة العراقية المقبلة في العام 2022.
* العامل التركي: على الرغم من أنّ أنقرة هي عضو أساسي في حلف “الناتو” وستَعرض بلا شك المساهمة في المهمة، إلّا أن أي دور تركي رفيع المستوى داخل “بعثة الناتو في العراق” قد يُعقِّد الأمور -سواء عن طريق إثارة غضب الميليشيات الشيعية المناهضة للأكراد، مع تذكير القصف التركي المكثف لقوات حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق أو كليهما.
* في العجلة الندامة: يجب أن تتأنى “بعثة الناتو في العراق” في درس كل خطوة تقوم بها ضمن المسار الطويل المرجو من التعامل مع قوة إقليمية رئيسية -قوة يمكن أن يؤثر استقرارها بشكل عميق على تدفقات اللاجئين والقضايا الأمنية في أوروبا. ويعني ذلك أن المقترحات المثيرة للجدل (على سبيل المثال، التعاون مع شبكة مليشيات قوات الحشد الشعبي)، يجب أن يتم النظر فيها بعناية فائقة قبل قيام حلف “الناتو” بالإعلان عن أي خطوات أو اتخاذها.
وتقدم “بعثة الناتو في العراق” أيضاً فرصة متواضعة لتجديد الحوار بين واشنطن وأوروبا. والآن بعد أن خفّضت الولايات المتحدة تواجدها العسكري إلى 2.500 فرد، فإن قرار الدنمارك بتولي قيادة المهمة وإرسال 285 عسكرياً يُظهر أن الحلفاء الأوروبيين على استعداد لتكثيف جهودهم من أجل منع عودة ظهور “داعش”.
وقد تكون البصمة الأوروبية المتزايدة في قطاع الأمن العراقي مفيدةً أيضاً على المستوى الإقليمي. فبسبب الحياد النسبي للقوات الأوروبية، يمكن لهذه القوات أن تُساعد في الحفاظ على الدعم الدولي القوي للعراق مع تقليل خطر التصعيد بين الميليشيات المدعومة من إيران والقوات الأميركية.
بطبيعة الحال، سوف يبقى توفير الدعم العسكري الأميركي إلى درجةٍ معينة (على سبيل المثال، حماية القوة والجسر الجوي والاستخبارات والوصول إلى القواعد) لازماً في البداية لتحقيق استدامة المساعدة الأمنية الدولية وموثوقيتها. لكن على واشنطن أن تعتبر هذا الاستثمار القصير المدى أفضل طريقة لتخفيف الالتزامات الأميركية على المدى المتوسط.
*مايكل نايتس: زميل “برنشتاين” في معهد واشنطن، ويقوم بتحليل الميليشيات والسياسيين المدعومين من إيران في العراق منذ العام 2003. بيير موركوس: زميل زائر في “برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا” في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” ونائب سابق لرئيس “شعبة الشؤون الاستراتيجية والأمن السيبراني” في السلك الدبلوماسي الفرنسي. تشارلز ثيبوت: زميل زائر في معهد واشنطن، وهو دبلوماسي فرنسي مخضرم خدم في الجزائر وسورية والعراق وبلجيكا وألمانيا.