عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-May-2025

ماذا لو لم تعد للعلامة سلطة؟*ماسة الدلقموني

 الغد

عندها، سأدعوكم جميعًا إلى أكبر حفل وداع.
كنت قد ودّعت، بحياء كبير وعلى مضض، مهارة الكتابة وحقيبة المدرسة في مقالاتي السابقة: "اندثار مهارة الكتابة" و"اندثار الحقائب المدرسية".
 
 
 لكن هذا الوداع… مختلف.
 آه، ما أروعه من وداع! لا يشبه ما سبقه؛ ففيه تحرّر من قيدٍ مقيت، وامتنان عميق لكل ما ساهم في وصولنا إلى وميض الرؤية لعنوان هذا المقال.
كم عشنا نقاس بها… بتلك العلامة المتشكّلة من 10، أو 20، أو 100، كأننا لم نكن نتعلّم، بل نلهث لنُرضي نظامًا لا يرانا.
 كم مرة كتبنا لننال العلامة، لا لنفهم؟
 حفظنا لننجو، لا لننمو.
 تجبّرت تلك النسبة المئوية في الكثير منّا، فجعلت من العلم سباقًا لا رحلة، ومن الخطأ وصمة لا نافذة، ومن الصف درعًا لا حضنًا.
لن أطيل في وداعها؛ فهي لا تستحق حرفًا آخر من هذا المقال.
لكنني، في هذا الحفل الخيالي، سأنتهز الفرصة وأصطحب الحضور الكرام في رحلة افتراضية إلى "مدرسة المستقبل"…
 مدرسة وُلدت من سؤالٍ فلسفيّ واحد:
"ماذا لو لم تعد للعلامة سلطة؟"
وربما يعود الفضل في اقتراب هذا الافتراض من الواقع إلى الذكاء الاصطناعي، الذي جاء ليفرض شراكة بين عقل رقمي وروح تبحث عن معنى.
 وبات اليوم رفيقًا لكل معلم وطالب وولي أمر وصاحب قرار، وجزءًا لا يتجزأ من مدارسنا، تمامًا كما كانت الكتب والدفاتر يومًا.
ورغم شيوع السؤال: "كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي على التعليم؟"، إلا أنه ليس بالضرورة السؤال الأهم؛ فهو سؤال تقني، تجيب عنه الخوارزميات، وتقارير الابتكار، وأبحاث التطوير.
 أما السؤال الجوهري الذي يجب أن نسأله، فهو إنسانيّ وأخلاقي، يغوص في عمق التجربة البشرية، ويضطرنا لنسأل بهدوء وجرأة:
 من نختار أن نكون حين نُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مدارسنا؟ وكيف نبني مؤسسات تعليمية تحتضن هذا الذكاء دون أن تُفرّط في إنسانيتها؟
وللإجابة على هذا السؤال، لا نحتاج تحليلًا بقدر ما نحتاج خيالًا.
 ولا بيانات بقدر ما نحتاج بصيرة، ولا شروحًا تقنية، بل شجاعة فكرية… لنفكر خارج إطار الأداة، ونُبقي الإنسان مركز التعلم، لا مجرّد منتج قابل للبرمجة.
فلنتخيل مدرسة لا تُدار فيها الحياة التعليمية بسلطة العلامة، ولا بخوف الامتحان، ولا بالسباق نحو "الأعلى"، لأن السقف قد اختفى.
 مدرسة لا تُعلّق الشهادات على الجدران، بل الأحلام، ولا يُنادى الأطفال بأسمائهم فقط، بل بفضولهم، بشغفهم، وبما يشتعل في أعماقهم.
 مدرسة الخطأ فيها لغة، وكل محاولة فاشلة تُقرأ كأثرٍ على طريق التعلّم، حيث لا يُعيد الطفل السنة لأنه لم يحفظ، بل يُمنح وقتًا إضافيًا لأنه لم يكتشف بعد ما يُحب.
هناك، لا تُوزّع الجوائز على أعلى علامة بل على أعمق سؤال.
 ولا يُصفّق لمن "أنهى المنهج" بل لمن كتب فصلًا جديدًا فيه.
 أما المواد، فهي ليست رياضيات ولغة وعلوم فقط، بل "صنع القرار"، "فن الحيرة"، "أخلاق التعاون"، "خيال بلا حدود"، وحصة أسبوعية عنوانها: "تعلّم مما لا يُدرّس."
في مدرسة المستقبل، العلامة لم تُطرَد، لكنها لم تعد تمتلك السلطة؛ فهي أداة صغيرة في صندوق كبير، تُستخدم لا للحكم، بل للتأمل، لا لتصنيف العقول، بل لمساعدتها على رؤية نمطها الخاص.
 وحين يحين التخرّج، لا يُوزّع المعدّل… بل تُروى الرحلة.
وكالعادة، نهاية هذا المقال الذي فقدت فيه العلامة سلطتها، هي بداية لتساؤلات أعمق:
 إذا لم تعد العلامة مَن يُملي علينا شكل التعليم، فمَن يُمليه إذًا؟
 وإذا غابت سلطتها، فهل المنهج كما نعرفه ما زال صالحًا؟
وبينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة "ماذا لو؟"، آملة أن تفتح حوارًا صادقًا وفعّالًا على جميع الأصعدة: في المنازل، في المدارس، وفي مجالس اتخاذ القرار.
وحتى نلتقي مجدّدًا في تساؤل مفروض:
كيف يبدو "المنهج" حين يتحرر من الخوف؟
 "مناهج ما بعد العلامة".
بينما نغوص أكثر في عالم التعليم المستقبلي، يسعدني أن أواصل معكم هذه الرحلة الفكرية في سلسلة ماذا لو، حيث نتخيّل معًا كيف يمكن أن يتطوّر التعليم في ظل الذكاء الاصطناعي. ربما تبدو هذه الأفكار للبعض وكأنها تأملات فلسفية… نعم، لكنها فلسفة من النوع الذي يُمهّد الطريق لكل تحوّل كبير. فكل تغيير بدأ بسؤال بسيط، وكل ثورة فكرية وُلدت من تشكيكٍ في المألوف. وحتى نلتقي مجدداً إليكم سؤال المقال القادم: "ماذا لو أصرت المناهج على بقائها؟"