الدستور
التضخم في سوريا بلغ حدًا جعلني أحمل أكياسًا من النقود لمساعدة أقاربي في شراء احتياجاتهم الأساسية من محل البقالة- رشا العاص، صحفية سورية.
عند زيارة موقع المطلوبين لدى حكومة الولايات المتحدة، يتصدر اسم أبو محمد الجولاني (أحمد حسين الشرع)، زعيم هيئة تحرير الشام التي أطاحت بالنظام السوري، قائمة المطلوبين، مع مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يقدم معلومات تؤدي إلى القبض عليه. ورغم ذلك، أجرى الجولاني مؤخرًا مقابلة مع صحيفتي نيويورك تايمز وسي إن إن الأمريكيتين.
يبدو أن الجولاني قد أدرك أن وجود تنظيم راديكالي لن يضمن له النجاح أو الاستمرارية على المدى البعيد، إذ تواجه هذه التنظيمات رفضًا واسعًا من مختلف الأطراف وتفتقر إلى أي اعتراف دولي. لذلك، وبعد أن كان جزءًا من تنظيم داعش، انفصل عنه بل وواجهه عسكريًا. ومن هنا، صنّفت داعش الجولاني وهيئته كـ»مرتدين» يخوضون حروبًا بالوكالة، واعتبرت أن قتله وأتباعه عمل مشروع وفقًا لرؤيتها المتطرفة.
على الرغم من تصنيف هيئة تحرير الشام، بقيادة الجولاني، كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، فإنه يسعى لتقديم نفسه كإسلامي معتدل. فقد أدرك أن مفتاح كسب تأييد السوريين يكمن في تحسين الاقتصاد المحلي. تحت قيادته، شهدت إدلب تحولًا جذريًا، حيث انتقلت من كونها إحدى أفقر المناطق في سوريا إلى واحدة من أكثرها استقرارًا اقتصاديًا. أصبحت إدلب اليوم تضم جامعة تستوعب 18 ألف طالب وطالبة، مراكز تسوق حديثة، وخدمات متنوعة، مع توفير مستمر للكهرباء.
في المقابل، يُعزى أحد الأسباب الرئيسة لسقوط النظام إلى فشله في معالجة الأزمات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، رغم وعوده المتكررة بتحسين الأوضاع بعد القضاء على الفصائل المسلحة. بدلاً من ذلك، وصلت معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.
بالإضافة إلى ذلك، يسعى الجولاني إلى طمأنة الأقليات. في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، صرّح بأن التنوع يُعد مصدر قوة. كما أرسل رسائل إلى مسيحيي حلب، يطمئنهم فيها على مستقبلهم. وأكد أسقف اللاتين في حلب أن الجولاني قد طمأنهم حول أمنهم واستقرارهم، مشيرًا إلى تعليماته بعدم التعرض للمؤسسات أو استخدام السلاح داخل دمشق.
لم يكتفِ الجولاني بطمأنة الأقليات، بل شدّد على ضرورة معاملة مقاتلي الجيش السوري برحمة. وأصدر تعليماته لرئيس الوزراء السوري الحالي بالاستمرار في عمله مؤقتًا، مؤكدًا رفضه لمبدأ الانتقام. كما صرّح بأن رؤيته للإسلام ستكون مختلفة تمامًا عن نموذج داعش، بل وأقل تشددًا. فور سيطرته على المدن، سارع إلى إيصال الكهرباء، وتوفير الخدمات الأساسية، وتنظيف الشوارع من الركام والنفايات، قبل أن يُسلّم إدارتها إلى الشرطة المحلية والبيروقراطيين لضمان استمرارية الحياة الطبيعية.
لكن، بطبيعة الحال، ستُوضع هذه التوجهات على المحك بعد انتهاء المعارك العسكرية. فقد شهدت إدلب، قبل أشهر قليلة، مظاهرات احتجاجية ضد الضرائب والجمارك المرتفعة، التي قوبلت بالقمع. دفع ذلك المتظاهرين إلى الهتاف بأن لا فرق بين النظام والجولاني.
مع انحسار أصوات المدافع، سيجد الجولاني نفسه أمام مفترق طرق حاسم: هل سيختار الالتزام بأيديولوجيته التي شكّلت مسيرته، أم سيغلب مصالح سوريا ومستقبلها؟ خياران يبدو التصالح بينهما مستحيلًا بلا شك.