سلامة يكتب: محمد العمد .. آخر العصبة البهية!
عمون-
أحمد سلامة
رحمك الله أبا إياد فقد أكرهتني على فك مهابة الصمت عن الكتابة في زمن الموت الجماعي …
سألني الزميل العزيز سمير الحياري: ( مالك صافن.. بطلت تكتب ؟؟ ).. أجبته قبل بضع اسابيع: والله يا أبو اسامة روائح الموت والحزن عشعشت في روحي … رد الباشا: ( معك حق ) ولم نعد الى حوار الكتابة رغم تواصلنا اليومي هو احترم صمتي وانا أكبر اخوته !! ..
في يوم وفاة الاستاذ الزميل مدير عام ( الرأي ) محمد العمد رحمه الله ، أحسست أن عيبا اخلاقيا او قل قيميا طاف من حولي لو لم ارث ( ابا اياد ) فهو آخر (العصبة النبيلة) التي اسهمت وقادت وادارت الطاقات الخلاقة في الرأي لتصبح الرأي اول الصحافة في عهدهم في الوطن العربي … تلك حقيقة وليست احساسا او امنية ..
مات جمعة حماد عراب التجربة واول روح الرأي البهية ( قلما خارقا كان ، وزعامة للقبيلة وفي الوطن ظل ، وكريما في المهنة والخلق .. كان رحمه الله اول الراحلين ولقد بكيته ابا وراعيا وحميما .
وبعدها.. غادر سليمان عرار، ورغم عدم تشرفي ملازمته في المهنة الا انه كان الأكرم في مبادرته نحوي، وظل يثني علي ككاتب ما عزز ثقتي بنفسي، وحين امتلكت اول قرار في المهنة دون ضواغط من احد حين صنعنا تجربة ( الهلال ) الاسبوعية تلك التجربة المذبوحة في الظلم ولم يذكرها احد بما استحقته ، من تفريخ لوزراء ونواب واعلاميين في سنوات ثمانية ومواقف قومية شريفة ، ومناداة للولاء للوطن عبر العرش.. كان صاحب الفكرة محمد الخطايبة ، وركنها وشيخها عبد الله العتوم ، وانا السائل الرحمة من رب العباد من اوجد تلك التجربة الغامضة الى حيز المهنة .. ومضت بريبة كنهايات صلاة دون تأبين …
قررت ان افرد زاوية تحت عنوان ( ضوء ) استذكارا لذكرى الكريم ( سليمان عرار ) على روحه الرحمة لان زاويته في الرأي كانت تحت هذا العنوان، واشغل فضاء تلك الزاوية ( ميسر فروخ ، عمر كلاب ، مهند مبيضين ، ناصر قمش ، ورومان حداد ) وغيرهم فضلاء محترمين… وفي ظروف كان الخيار فيها احلاه الاغتراب رحت الى البحرين في عمل أكرمني جلالة الملك فيه حفظه الله ورعاه إرسالي موظفا في بلاط سمو ولي عهد البحرين مدة تجاوزت العقد ..
وحين راح محمود الكايد لملاقاة ربه بوجه مشرق وكف بيضاء كنت مغتربا حين أخبرني ولدي ناصر قمش أن ( أبو العزم ) تولاه الله برحمته ..
ركبت وعدت من فوري حزينا مهدودا،وكنت آخر المعزين وآخر من تلا الفاتحة على روحه عقب الدفن .. وأبو عزمي لم يبرحنِ منذ ان مات .. أعود لزيارته بقلمي دوما كان ( الاخضر في يده و قلبه ) ظلا على صلة بي حتى اخر العمر، فهو رجل .. يحفر بتجربته وروحه القومية العربية السامقة كنهر لا يقاوم هديره اية صخرة وكان محافظا في المهنة مبدعا لكل جديد جسورا على التغير يمسك الريح ويقبض على مخالب التوازنات فيروضها ترويضا تصير بين يديه كالحرير
وأبو اياد يرحمه الله آخر هذه العصبة الجريئة الذي صمد رغم امراضه واوجاعه على فراق احبته يرحمه الله .. ولا تستقيم تجربة الرأي او الحديث عنها (أعني بكلمة الرأي ) رأينا التي عشنا فيها كأسرة واحدة تباعدنا السياسة واتجاهاتها ويوحدنا سقفها وهي الموسسة الخالدة التي ما زلنا نقبض رواتبنا التقاعدية على رمزيتها من فضل خير ترتيب محمد العمد..
محمد العمد كان ( الطروسي ) الخفي في سفينة الرأي والطروسي هو بطل رواية حنا مينا ( الشراع والعاصفة ).. مهذب حميم يعطيك من الاخر اخلاق الدمج بين قصة مدينتين ( نابلس والسلط ) فهو ابنهما الحقيقي .. وهو المدبر حد الازعاج
فجعل من الرأي ( امبراطورية ) أقلقت القاصي والداني ، والله وحده يعرف من المسؤول عن جعل هذه ( الجورية الوطنية ) تذوي كحبة قمح اتعبها الثلج… عرفته عن قرب اول مرة عام ١٩٧٨م حين سبق مجيد عصفور مندوب الرأي العتيد في وزارة التربية والتعليم زميله في الدستور بنتائج التوجيهي عبر ترتيب جهنمي لتسبق الرأي في الطباعة الدستور بعشرين دقيقة وتفوز بموسم البيع ..
تكاثر الطلبة على شبابيك مطبعة ( Goss ) القديمة كنا نقف جميعا من خلف قضبان الشبابيك ونمد العدد للطالب الذي يعينه الحظ الاقتراب من الشباك بعد ان يمد سعر العدد المميز !!
وجدتني اقف بجوار محمد العمد أول مرة كان جمعة حماد ومحمود الكايد ومحمد العمد يقفون خلف القضبان ونحن معهم نبيع الجريدة، هكذا صارت الرأي هي الاولى في العالم العربي !!…
لقد فتح لي باب الادارة على مصراعيها الزميلة الغالية وفقها الله ( برناديت حتر )، كانت هي السكرتيرة التنفيذية للمدير التنفيذي ( محمد العمد ) حين كان جمعة حماد مديرا عاما وبرناديت صلتي بها تعود لمرحلة الجامعة حين أتت بها المرحومة المعلمة أسمى خضر للعب دور مسرحي أمام ناهض حتر يرحمه الله
كانوا طلابا في مدرسة خاصة في المصدار وتعرفت اليها من ذلك الزمن وأسعدني انها هناك ولقد سهلت لي برناديت أول سفرة الى فرنسا حين قدمتني لأبو إياد عن طريق ساعده الأيمن الاستاذ الزميل نادر حوراني.. من بعدها توثقت عرى علاقتي بنادر حد الاخوية وابو اياد رحمه الله لم يعد يتردد في طلب اشياء يحتاجها في الحياة بالموسسات وأنا ألبي له بكل حب ..
أول درس منه كان في دائرة الترخيص ظل يشغل دائرة الترخيص في أواخر السبعينيات مديرا نافذا نزيها مبدعا العميد / اللواء لاحقا محمد علي الامين رحمه الله وابو وسام ربطتني به علاقة مصاهرة ليست بعيدة إذ أن كريمته كانت زوجة لابن عم لي هو ابن صالح الشرع لكني كمندوب صحفي لمديرية الامن العام
وقفت داعما لكل ما اتاه ذلك المصلح الاداري العميق وسوقته بمهنية وكان رفيق عمري واخي الذي احببته اكثر من كل اشقائي الحقيقيين ما عدا عباس الدكتور علي العضايلة الذي اضحى اكاديميا رفيع المقام في عالم الاكاديميا كان برتبة نقيب في دائرة الترخيص ومن قدمني اليه الزميل ختيارنا ( عبدالله العتوم )، كانت الدنيا بسيطة وكان علي العضايلة ذا نفوذ في دائرة الترخيص يستطيع ان يهبك بالتشاور والموافقة المسبقة مع العميد محمد علي الامين
اي رقم للمركبة تريده !! ..
اشترى أبو إياد رحمه الله سيارة امريكية فاخرة في ذلك الحين ممكن ان تكون نوع ( كابريس ولونها بني ) وطلب مني السعي لامتلاك رقم محترم حين التسجيل !! .. يومها ألح علي الصديق نادر ان يكون الرقم ثلاثي وكان ذلك صعبا علي ليس من صلاحيات علي العضايلة كان يمون على الرباعي بسهولة ولم يترك لي مجالا نادر الا ان أترجى علي العضايلة وحاول علي ولم يقدر وتمسك بقدرته على صرف اربعة ارقام، في طريق الذهاب لدائرة الترخيص
كشف لي ابو اياد عن فنه العبقري في ( البزنس ) سأل مبتسما: صاحبك ما قدر ع ( ثلاثة ارقام )؟، اعتذرت منه لم استطع سوى اربعة ، فقال: بصيروا ثلاثة باستعمال العقل لما نوصله ( اهمس له ) يعطينا اربعة ارقام آخر الرقم صفر ، منحط برغي التثبيت عالصفر بصفي كان الرقم ثلاثة .. وضحك ).. وهكذا صار
اختار الحبيب علي العضايلة رقم (3460) سأظل اذكر القصة لان طريق الاياب قد فصحتني بروحه الاقتصادية !!!..
قال لي احمد: على الانسان ان يفكر بدقة بالاشياء الصغيرة حتى يتمكن من الظفر بالكبيرة، وعلى الانسان ان يستفيد دوما من التجارب التي يمنحها اليه الحظ او القدر ، وشكرني بعناية مفرطة واسست تلك الرحلة الى اخوة وصداقة بيني وبينه لم تفسدها الاختلافات اللاحقة ..
حين غادر المرحوم احد افضل من كان من بناة الامة مضر بدران رحمه الله، صهر ابو اياد كتبت يومها مقالة ذاع صيتها عن الباشا ( لمضر المواطن.. وليس لبدران الرئيس) نشرت ذات سبت ( في زاويتي الاسبوعية ( سبعة ايام ) وقبل ظهر ذلك اليوم ناداني ابو اياد رحمه الله الى مكتبه في خلوة سرية وادار قرص هاتفه وتحادث مع الكبير ( مضر رحمه الله ) وعلمت انه والاسرة في العقبة وقال له: "هي الاخ احمد عندي تفضل دولة الباشا بدو يكلمك".. كانت اول مرة اسمع صوت ابو عماد عبر الهاتف شكرني على المقال وداعبني ( يعني انت خبرتني بأن التقاعد نهائي، وكان يستذكر عبارة وردت في المقال انه ( كفى ووفى )..
كان آخر حوار أخوي حميم بيني وبين المرحوم ابو اياد .. بعدها باعدتنا المواقف واختلفنا على امور تصريف ادارة الرأي ظل هو على عناده رحمه الله في ان ( قليل دائم خير من كثير مقطوع ) وظللت احاول انتزاع اكبر مكاسب للزميلات والزملاء من موقعي كمدير للتحرير حتى وقعت المواجهة الكبرى وغادرت الرأي
للديوان الملكي الهاشمي العامر، دوما اقول عن ابو اياد في لحظة افتقاده بالرحيل أنني أترحم عليه كلما أمد يدي لراتبي التقاعدي في آخر كل شهر كان
هو ابو اياد من قرر وهندس وصمم أن تكون الرأي من اوائل الشركات التي انضمت للضمان الاجتماعي ولقد استفاد من ذلك كل واحد فينا بحسب ما املاه عليه ضميره وخلقه والحمد لله والشكر لمحمد العمد .
ابو اياد من القادة الكتومين المحشومين النبلاء لم يكن يعرف البهرج في حياته وهو حريص في الصرف في المال العام، ولكنه كان بعيدا عن أي بخل
وكريم دون تفريط وانجب ذرية صالحة لم يعرف المنفخة والمباهاة كان الكثير في الرأي من لا يعرفون انه الصهر والصديق لدولة مضر باشا.. وحين كانت تغلق الرأي لسبب مهني لم يكن يتدخل قط مع المسوولين بابتزاز عاطفي لمصاهرته لدولة الرئيس ..
ابو اياد منح فرصة عريضة لجيل من الاداريين في الرأي لا يقل أهمية عن الذي صنعه جمعة حماد ومحمود الكايد للمهنة.. بوفاة ابو اياد آخر الكبراء الخمسة
جمعة حماد روح الرأي ورجا العيسى ذاك الصوت الكنسي اليافاوي اليعربي الذي أناخ في الرأي بعد ان أغلقت فلسطين الصحيفة وهو ووالده من صنعها..
كان رجا العيسى صوت الجرس المسيحي المدهش الذي كان يهز الرأي بقلمه حين يقول !!.. وسليمان عرار الجنوني الجنوبي الذي ترك غيمته فوق الرأي بعد الممات.. ومحمود الكايد الذي ألغى المسافة بين الكايدية والرأي زرع في كلتيهما ما أحبه من ثمر.. ومحمد العمد كان هو حافظ الزاد ورافع العماد لها كان هو (الطروسي) بطل رواية الرأي الحقيقي.. بوفاته يرحمه الله طويت صفحة عصبة الخمسة البررة وسلمت الرأي الى عالم الغيب والشهادة
والله نسأل لها ان تسترد روحها وان تمضي الى العلا،.
كان الواجب أن أقول في الصديق الزميل الخلوق صاحب الجود والوعي فخري قعوار ما يستحقه من رثاء، لكن الزميل باسم سكجها أجزل الخير وأدى الواجب والأمانة نيابة عنا.. وكتب في فخري ما يستحق.. شكرت لباسم طلته الوفية، قال لي متحسرا: والله ما انا عارف يا بوحميد نؤبن الاصدقاء والزملاء مش عارف حين نمضي من سيكتب عنا.. وأجبته: سييسر الله لنا أمرا يا أبو ابراهيم..