عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Sep-2019

تــأمـــــــــــلات - د.جميل أبو سارة
 
الدستور ***إذا كنت ما زلت متمسكا بكتب «الأحكام» كما هي، بل وتراها حلا سحريا لمشاكل العالم اليوم في شتى الصعد، فأنت مُطالبٌ بِمَغبَّات ما في هذه الكتب؛ ما يهدد السلم المجتمعي.
فلو أن رجلا قتل أخته أو زوجته، وأثبت للقاضي أنه فعل ذلك لأنها أقامت علاقة مع آخر: فالقتل في هذه الكتب التراثية – للأسف - ليس جريمة ولا يعاقب عليه. أما إن عجز عن البينة: فهو في القضاء مجرم، ولكنه عند الله بريء على حد عبارة النووي «أما فيما بينه وبين الله تعالى فإنْ كان صادقاً فلا شيء عليه»!!
بل زادت كتب الحنفية – للأسف أيضا - على المذاهب الأخرى بأنه لا يشترط أن تكون الفتاة أختا أو زوجة، بل قالوا – وهذا نص عبارتهم -: «الأصلُ أنّ كلّ شخص رأى مسلماً يزني يحل له أن يقتله»!!
فلما تطاول الزمن بهذه الفروع، وجرى عليها شأن القضاء في الأمصار، تحولت إلى أزمة مجتمعية هائلة اسمها «جرائم الشرف».
لست أكتب هنا لأحاكم الأولين، فتلك أمم قد خلت، وكتبهم فيها الروائع كما فيها الكوارث بالنسبة لنا، ولكني أكتب لمجتمعنا وعصرنا الذي نسعى أن نصونه عن الدماء، ونسعى فيه لأفضل «وعي» بالديني وعلاقته بالمدني، ولأن الكثير ما زال يظن أن هويته تكمن في دفاعه عن «الماضي» كما هو، وتكمن في اتهامه كل اشتغال نهضوي تجديدي في الفكر الديني بأنه تغريب وتحريف!
***  فكرة عادل ضاهر في كتابه «الأسس الفلسفية للعلمانية» هي إثبات المناقضة التامة بين الديني والمدني؛ لأن:
1. المدني منطقه الداخلي إثبات استقلال قدرة الإنسان على إدراك ما ينبغي أن يفعل وما لا ينبغي أن يفعل، دون سلطان خارجي عليه.
2. وأما الديني فمنطقه يقوم على سلب السلوك البشري أي قيمة «ذاتية»، ولا يعترف بـ «الينبغيات» الذاتية، وإنما الأمر اعتبار في اعتبار، والإنسان دوره انتظار الاعتبار السماوي، ولا استقلال له في أحكامه الأخلاقية.
3. فالنتيجة إذن: الديني والمدني لا يجتمعان.
والخلل هنا في المقدمتين كلتيهما
أما الأولى: فالتنوير المدني - وفي قمته الكانطية – رفض أن يكون لشيء سلطان على العقل غير العقل نفسه نعم، ولكنه لم يرفض أن يستعين العقل بكل ما يقدم له يد العون بالحجة والبرهان كالدين مثلا.
وأما الثانية: فالديني الذي ذكره هو الديني الذي قدمته بعض مدارس الأشعرية والبروتستانتية الكالفينية فحسب، وخطأ عادل ضاهر أنه جعلها ممثلة لفلسفة الدين ومنطقه الداخلي! رغم إشارته في كتابه إلى المذاهب الدينية والكلامية الكبيرة التي لا توافقه على مقدمته الثانية، ولكنه استمر في الذهاب بعيدا بدعوى التناقض والتركيز على هاتين المقدمتين كي تتسق فكرة الكتاب.
*** تعليق متأخر على مناظرة: «السعادة: رأسمالية أم ماركسية»، والتي وصفها الإعلام بأنها مناظرة العصر:
في رأيي المتواضع لا يمكن ليساري – حتى ولو أوتي جدلا من أمثال سلافوي جيجك – أن يقدم صورة قاتمة عن الرأسمالية داخل المجتمعات الليبرالية التي نعمت بمزاياها ولم تعان من مصائبها.
وخاصة حين يبدأ جيجك حصته من المناظرة بالحديث عن «مثالية النموذج الصيني» فإنه بذلك يقضي على كل آمال مستمعيه الذين يفتشون عن فلسفة وسيطة براقة تستغل الانكفاء الليبرالي الحالي، ولكنه أصر على تدنيس ما يقدمه بذكر النموذج الصيني!
كان من المفترض لفيلسوف مثله أن لا يأخذه الإنجاز الاقتصادي على حساب الإنجاز الإنساني، وهو ممن يعيب على الرأسمالية توحشها المالي، وينسى في الوقت نفسه أن القبح الصيني لا يقل عن القبح السوفييتي، ولا عن القبح الكوري الشمالي الحالي، وأن الصين ليست سوى وحش مالي آخر، لم تقدم على الصعيد الإنساني ونموذج الحكم سوى القهر والانتهاك والاستبداد المطلق، مع خواء معنوي وفلسفي تام – بعيدا عن البوذية التي لا علاقة لها بالحكم-.
في تحليل خطاب جيجك – ما الذي ركز عليه وما الذي أهمله – يمكنك إدراك النقص الذي اعترى أطروحته، فقد كان ثمة الكثير مما يمكن أن يقال في نقد السعادة الرأسمالية، ولكنه بسبب الهوى الماركسي، والشعبوية الجمهورية الماثلة بين يديه، انكفأ على تحليل نفسي باهت لمفردة السعادة والرغبة وتفسير سلوك الإنسان، بدون ربط واضح للمستمع بمعضلة الصراع الطبقي، الأمر الذي قد لا ينتبه له إلا القليل.
على كل حال، خبرة مهمة لنا - أبناء الحضارة المشرقية - للاطلاع على نموذج من الاشتغالات الفكرية الجماهيرية المعاصرة، قد تسهم في توجيه اشتغالاتنا نحو منظور إنساني أشمل.