الدستور
أعطني بيتًا سعيدًا وخذ وطنًا سعيدًا – العقاد.
منذ عام 2002، يُصدر سنويًا تقرير السعادة، وهو تحليل إحصائي يهدف إلى تحديد أسعد وأتعس شعوب العالم. يقيس التقرير ستة عوامل يُفترض أنها مسؤولة عن الحالة المزاجية للشعوب، وهي: الناتج المحلي الإجمالي للفرد، الدعم الاجتماعي، متوسط العمر المتوقع، حرية اتخاذ قرارات الحياة، الكرم، وأخيرًا تصورات الناس حول مستويات الفساد.
ولأجل مقارنة بيانات الدول بشكل منصف، أنشأ الباحثون بلدًا خياليًا أطلقوا عليه اسم «ديستوبيا»، يمثل أقل شعوب العالم سعادة، إذ تكون قيم العوامل الستة فيه في أدنى مستوياتها. بعد ذلك يتم قياس أداء دول العالم مقابل «ديستوبيا»، وتجمع المؤشرات الستة لتظهر في النهاية درجة واحدة مجمّعة لكل دولة.
في تقرير عام 2024، شاركت 147 دولة، وتصدّرت فنلندا المركز الأول في مؤشر السعادة للسنة السابعة على التوالي، تلتها الدنمارك، ثم آيسلندا، فالسويد، ثم هولندا. في المقابل، جاءت أفغانستان في المرتبة الأخيرة كأتعس دولة في العالم، تلتها سيراليون، ثم لبنان. ولأول مرة، خرجت الولايات المتحدة من قائمة الدول العشرين الأكثر سعادة.
أما على الصعيد العربي، فقد احتلت الإمارات المرتبة الأولى عربيًا، وجاءت في المركز الحادي والعشرين عالميًا، تلتها الكويت في المرتبة الثلاثين عالميًا. في المقابل، تصدّر لبنان قائمة الدول العربية من حيث التعاسة، محتلاً المرتبة 145 عالميًا، تليه مصر في المرتبة 130.
وجاء ترتيب الأردن في المركز 128، أي في مرتبة متأخرة على مؤشر السعادة، وهو ترتيب ينسجم تقريبًا مع المعدلات التي سجلها في التقارير السابقة.
وقد تفوّق الكيان الصهيوني على جميع الدول العربية، وجاء في المركز الثامن عالميًا كأحد أكثر الشعوب سعادة. ومن وجهة نظري، فإن هذه النتيجة غير صحيحة، بل تتعارض مع المنطق والواقع؛ فكيف يمكن لشعب أن يكون سعيدًا وأبناؤه محتجزون لدى حماس، وجنوده يُقتلون، واقتصاده في تراجع، والصواريخ تحلق فوقه، وسكانه يفرّون إلى الملاجئ؟ الجنوب والشمال قد فرغا من السكان، والمظاهرات تعمّ أرجاء الكيان، ومئات الآلاف يغادرونه، وآلاف الشركات تُغلق أبوابها. وتشير إحدى الدراسات إلى أن 30% من الصهاينة بحاجة إلى علاج نفسي. فهل يُعقل بعد كل ذلك أن يحتلوا المركز الثامن في مؤشرات السعادة؟ قطعًا لا.
يُصوّر الغرب الكيان الصهيوني على أنه واحة ديمقراطية وسط غابة من الهمج، فلماذا إذًا لا يُصوَّر أيضًا على أنه سعيد يعيش وسط شعوب تعيسة؟ لذلك نرى أن جميع الدول المحيطة بالكيان تتصدر المراتب الدنيا في مؤشرات السعادة، في ظل إفصاح السياسيين الصهاينة عن مخططاتهم لاحتلال أجزاء من هذه الدول. وبهذا، يصبح من المقبول -وفق هذا المنطق المشوَّه- أن تحتل الدول «السعيدة والديمقراطية» الدول «التعيسة»، وتخلّص شعوبها من تعاستها! إنها فكرة تشبه إلى حد كبير وهم «الحلم الأمريكي»، لكن بوجه استعماري جديد.
وقد يكون من أهداف هذا التقرير ضرب الثقة بين الشعوب ودولها، ودفع الناس إلى مستويات عالية من الإحباط، مع تقديم الكيان على أنه دولة طبيعية، متقدمة، سعيدة، وقوية، في مقابل شعوبٍ محبطة تعيش في دولٍ فاشلة.
وبعيدًا عن نتائج الدراسة، يُطلق على جميع الدول التي احتلت المراتب الأولى لقب «دول الرفاه الاجتماعي». وهي دول تجاوزت القُطرية التقليدية والديمقراطية الشكلية، لتجعل من تحقيق رفاهية شعوبها الشغل الشاغل لحكوماتها، بعيدًا عن الشعارات البراقة والخادعة. إنها دول تهتم بالمشاركة المجتمعية، وتسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتتدخل كلما كان ذلك في خدمة هذا الهدف.
تسعى هذه الدول إلى توفير حياة كريمة لشعوبها، وظروف معيشية مريحة، حيث توجد طبقة متوسطة واسعة، ورواتب مرتفعة، وساعات عمل مرنة، إلى جانب ضمان حرية التعبير والاختيار.
برأيي، تكشف هذه الدراسة زيف العديد من المقولات الشائعة، مثل الادعاء بأن نسب الانتحار هي الأعلى في الدول الإسكندنافية. ولعل أبرز هذه المقولات الخاطئة هي أن زيادة الرواتب تؤدي بالضرورة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج، وبالتالي تضعف القدرة على المنافسة. وسأضرب مثالًا على ذلك: في الدنمارك، يتقاضى موظفو مطاعم الوجبات السريعة ما يعادل 20 دولارًا في الساعة، وهو أجر أعلى بكثير من نظرائهم في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن كلفة «الساندويش» هناك أقل بنحو 60 سنتًا.
من المناسب أن تتغير الرؤى الاقتصادية في وطننا، بحيث يتم تعزيز برامج العدالة الاجتماعية وتمويلها من خلال زيادة ضرائب الأغنياء. فخلف كل مليونير مئات الموظفين الذين لا يحصلون على حقوقهم العادلة. ولا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون وجود نقابات قوية تدافع عن مصالح منتسبيها، إلى جانب نظام تعليمي وصحي متين، وبنية تحتية قوية.
أنا أعتقد أننا لسنا عاجزين عن إسعاد الأردنيين، ما نحتاج إليه فقط هو إرادة حقيقية.