فايز الطراونة.. (خدمة العهدين) تقرأ في أوراق المئوية
الراي-ملك يوسف التل
عندما يتعافى الإنسان ويعود للحياة خارجاً من غرفة الإنعاش، فإن نظرته للكثير من يوميات الحياة تتغير باتجاه المزيد العميق من الرضا والوضوح والشفافية.
الدكتور فايز الطراونة أسبغت عليه نعمة التعافي عباءةً أخرى، مضافة لعباءات الموروث والاجتهاد والإنجاز، فأصبح لاستعادة ذكريات أربعة عقود أمضاها «في خدمة عهدين» قيمة مضافة متحركة، صوتاً وصورة.
ما لم يُفصّله الدكتور الطراونة في كتابه الأخير، يتوسع به هنا اليوم، في حيثيات تقرأ بأوراق المئوية الأولى والثانية، من موقع الاستشراف المعزز بالتجربة.
يتحفظ دولته على بعض مخرجات لجنة التطوير السياسي، وتحديداً موضوع الأحزاب والكوتات، وينتظر ما سيفعله مجلس النواب والأعيان في مشروع قانون الأحزاب.
فالتعهد بأن لا تُجري السلطة التنفيذية أي تعديل على مشروع القانون، لا ينطبق دستورياً على السلطة التشريعية في مجلس الأمة.
في حديثه اليوم يعيد أبو زيد تظهير الكثير من الصور التي ما زالت مجالس السياسيين في عمان الغربية تستذكرها من حيثيات العقود الأربعة الماضية، بعضها في السياسية وبعضها بعيداً عن السياسة.
هل كانت ميزة أو سوء طالع أن توليتم في المرتين رئاسة الحكومة في أعقاب حكومات لرؤساء خلافيين أمثال عبدالكريم الكباريتي وعون الخصاونة؟
ماذا تعنين بتعبير «خلافي»؟ هل هو خلافي في كل أوساط الأردن أو مع نخب متضررة بطريقة أو بأخرى؟
كونك رئيس وزراء فأنت خلافي، والسبب أن الرئيس هو المسؤول عن التنفيذ، ومجتمعنا للأسف مجتمع مطالبي، وعلى الحكومة أن تفعل كذا.. حتى القطاع الخاص يريد من الحكومة أن تمسك يده وتُسوّق له.
هناك سخط دائم على رئيس الوزراء وعلى الحكومة لأنه ليس لديها الموازنة الكافية. ولا تزال هناك الرواسب الذهنية والعقلية التي تريد من الحكومة النظرة الأبوية. هناك قسم من الناس لا يعلم أن الحكومة لا يوجد لديها موازنة كافية.
حكومة عون الخصاونة قامت بعمل قانون انتخاب حل محل الذي قمت بتغييره إلى الصوت الواحد، لأن الظروف اختلفت بيني وبينه.
ظروف مختلفة، وإرضاء الناس غاية لا تدرك، والإشكالية اليوم في السوشال ميديا. يخرج شخص ويكتب بيانا أويقدم رأيا ناريا. وعندما تأتيني الرسالة أرسلها لأشخاص آخرين يرسلونها بدورهم وتصبح متوالية هندسية، مثل النار في الهشيم. هناك انطباعات غير دقيقة واتهامية، أصبح السقف عالياً في الاتهامات. ولذلك لا أعرف ما هو مفهوم الجدلية، فهل إذا اختلفنا في الرأي فأنا الصحيح وأنت الجدلي؟ ليس بالضرورة. الاختلاف في الرأي أمر صحي والديمقراطيات قائمة على هذا الأساس، لكن عندنا (ولا أعمم) أكثر الناس صدورهم ضيقة هم الحزبيون الديمقراطيون.
حدثنا عن قصة تغييب الأردن عن مفاوضات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، أيام كنتم سفيرا في واشنطن
هذه قصة طريفة؛ فعندما دخلنا على المفاوضات الثنائية، قلنا أن هناك مساراً فلسطينياً مستقلاً ومساراً أردنياً مستقلاً، لأن المرجعية مختلفة. نحن مرجعيتنا قوانين 242 و383، وهم في المرحلة الانتقالية لأن مرحلة الوضع النهائي خمس سنوات.
وهناك كثير من القضايا مشتركة بيننا وبين الفلسطينيين مثل اللاجئين والمياه والحدود ونهر الأردن والأمن. وقررنا أن نبقي مسؤولاً أردنيا مع الوفد الفلسطيني باجتماعاتهم، وفي المقابل يكون هناك مسؤول فلسطيني معنا من أجل التنسيق. فكنت أحضر مع الوفد الأردني وأعود بعد الظهر مع الوفد الفلسطيني.
وفي عام 1992 استيقظت ذات صباح لأقرأ بجريدتي الواشنطن بوست ونيويورك تايمز عن اتفاقية أوسلو، فنشرت النيويورك تايمز صفحتين حول الاتفاقية، ولم أكن أعلم عنها شيئا. عندها اتصلت بوليد المعلم السفير السوري في واشنطن، وسألته إن كان قد رأى الاتفاقية، فرد بأنه رآها، وسألني إن كنا نعلم عنها أم لا،أخبرته بأننا لا نعلم عنها أبدا.
وذهبنا معا إلى حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الفلسطيني، الذي كان موجوداً في واشنطن، وعندما قابلته لم يعجبني حاله، حيث لم يكن لديه علم بذلك، وهو رئيس الوفد الفلسطيني، وأخبرني انه سيستقيل.
تحدثت مع عمّان وأخبرتهم بأن الوفد الفلسطيني لا يوجد لديه علم، وأخبروني بأنهم أيضاً ليس لديهم علم، فقد كانت سرية. ومع أنهم أقحموا الأردن في بعض الملاحق، لكن كنا نقول دائماً بأننا نحترم القرار الفلسطيني المستقل، وهم رأوا أن هذه الطريقة الوحيدة التي يستطيعون عمل اتفاق من خلالها، فنبارك ما يريده الفلسطينيون.
وهكذا حصلت أوسلو، قام بها أبو عمار وأبو مازن وقريع، وحصلت جدلية كبيرة.
قصة العلاقة الأردنية الإيرانية في موضوع رحلات الحج الإيرانية لجنوب المملكة؟
في اجتماع وزراء خارجية العالم الإسلامي بطهران، قال لي الملك الحسين: «أبو زيد لا بد أن ترى خرازي وزير خارجية إيران». وكان لدينا أسيران أردنيان، كانا قد التحقا بالجيش العراقي، وفي عام 1981 تم إلقاء القبض عليهما في المحمّرة، وهما محبوسان من ذلك الوقت، فإذا استطعتم إعادتهما مع الأمير الحسن نكون لإيران من الشاكرين.
عندما وصلت طهران قابلني وزير خارجية إيران خرازي، وابلغته أنني أود الاجتماع معه غداً. في اليوم الثاني جلسنا وتحدثنا عن حزب الله والعديد من القصص، فكان الحديث ودياً دبلوماسياً عالي المستوى، ثم أخبرته عن الأسيرين، فقال إنه سيعود إلى القيادة وبإذن الله لن نخيب ظن الملك. وفي المقابل أخبرني بأن لديهم طلبا، يخص منطقة المزار في الأردن، فقلت له هذه بلدي وأنا من هذه المنطقة، قال لي أن هناك حجا لضريح الامام جعفر، وهو مقام مقدس بالنسبة لهم كشيعة، ويريدون إرسال حجاج للمنطقة، أجبته بأننا سنقوم بعمل ترتيب.
وفي اليوم الثاني جاء الأمير الحسن، وأبلغني الإيرانيون بأن الأسيرين سيعودان معنا إلى الأردن، واستقبلنا الملك الحسين في مطار ماركا، وقمنا بعدها بعمل ترتيب الزيارة، فجاءت أول بعثة، ومعها نشرات عن ولاية الفقيه، وقالوا إن الكرك منطقة ساخنة حيث يروا أنه يحدث بها مظاهرات وما إلى ذلك، ويجوز أن تكون مدخلا لهم للتشييع من خلالها. فحوالي عشرة آلاف منشور عن ولاية الفقيه والاثنى عشرية وغيرها، أمسكناها في المطار، وقمنا بحجزها وأرسلناها ليقوموا بالحج لمدة يومين وبعده أوقفنا ذلك.
عندما وصل الإمام الخميني إلى حكم إيران، كان أول تصريح له عن فلسفة الدولة هو تصدير الثورة، فدخلوا الى لبنان وسوريا والعراق لكن لم يستطيعوا أن يدخلوا الأردن.
قصة محاولة اسرائيل اغتيال خالد مشعل وكواليس الاتصالات الأردنية مع إسرائيل ومع كندا بخصوص الجوازات المزورة:
القصة مهمة. وكنت وقتها وزيراً للخارجية، وأيضا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولدي سلسلة من اللقاءات، فجاءني خبر محاولة اغتيال خالد مشعل، واعتقال من قاموا بذلك، وإصرار الملك حسين على تزويد الأردن بالدواء المضاد للسم الذي أعطوه لخالد مشعل، وإلا سيلغي المعاهدة، وهدد جلالته نتنياهو.
جاء الأمير الحسن وسميح البطيخي إلى واشنطن في زيارة، وكنت تركت نيويورك وذهبت إلى واشنطن وانضممت إلى الأمير الحسن خلال فترة اليومين وبعدها عادا إلى الأردن.
بعد عودتي إلى نيويورك للجمعية العمومية، في تلك الأثناء صدع نتنياهو وأتى بالدواء المضاد للسم وبذلك أنقذ الملك حسين حياة خالد مشعل، وليس هذا فقط بل أخرج الشيخ أحمد ياسين من السجن. وصلت نيويورك الساعة الخامسة مساءً، وإذا بشباب الخارجية الذين معي والمندوب الدائم يخبروني بأن سفيرنا في كندا سمير خليفة يريد التحدث معي للضرورة، اتصلت به، قال لي: يا أبا زيد، لدينا في كندا مشكلة قائمة وقد تسقط الحكومة الكندية الليلة، والسبب الجوازات المزورة التي استعملها المعتدون على خالد مشعل، فإذا لم يتم حل الأمر الليلة سيتم طرح الثقة بالحكومة ومن الممكن أن تستقيل.
وزير الخارجية الكندي موجود في نيويورك مثل باقي وزراء خارجية العالم ويريد رؤيتك قبل الساعة السابعة مساء اليوم، لأن اجتماع البرلمان الساعة الثامنة، ولا يريد مني إلا أن أقول أن الحكومة الأردنية ستنظر بعين الاعتبار وعندما ينتهي التحقيق أن نعيد الجوازات المزورة لهم، وهذا حقهم لأن هناك من زور جوازات سفرهم.. كان فقط يريد مني هذه الجملة. فطلبت وزير خارجية كندا، وأعطيته موعدا للقاء به الساعة السابعة مساءً، ليتسنى لي التحدث مع سميح البطيخي إذ كان عائداً في الطائرة من واشنطن إلى عمان. اتصلت مع سميح البطيخي وكان مع الأمير الحسن، وكانا ما زالا في مطار ماركا، فأخذ الأمير الحسن الهاتف وقال لي ماذا حدث؟ أخبرته بالقصة مع السفير الكندي، فأخبرني أن الساعة متأخرة الآن، وطلب إعطاءه وقتا لاستشارة جلالة الملك، أخبرته بأن معنا ساعة فقط.. فأعطى الهاتف لسميح البطيخي والذي أخبرني بأن التحقيق انتهى وانه أبلغ الكنديين بأن يرسلوا طائرة وموظفين رسميين لاستلام الجوازات.
وفي الساعة السابعة جاء الوزير، فعندما قابلني بدأت بالحديث معه، وأخبرته بأنكم أصدقاؤنا ومن هذه اللحظة تستيطعون إرسال موظفين رسميين إلى عمان لاستلام الجوازات، فسرّ جدا لهذا الخبر وتحركت طائرة إلى عمان واستلموا جوازات السفر.
ما هي قصة الليلة التي نمتم فيها في منزل وصفي التل أثناء حوادث أيلول:
أنا من عشاق وصفي التل، هو صديق والدي، عندما كان أبي رئيساً للديوان الملكي، لم تكن لوصفي وظيفة رسمية، لكنه أردني وطني، كان حول جلالة الملك رجالات منهم زيد الرفاعي، وصفي التل، أحمد الطراونة، حابس المجالي والأمير زيد وأيضاً صلاح أبو زيد. كنا نسكن الدوار الأول، فتحدث معي والدي قبل تشكيل الحكومة العسكرية بساعتين، قال لي: فايز خذ أمك وأختك وأذهبوا إلى بيت د. مصطفى خليفة وخذ سمير، لأن هاني خليفة مدير مكتب الأمير الحسن معهم. خذهم ومعهم أم هاني وابنته عالية وتأتون لنا إلى باب الحمّر من منطقة دابوق وتجلسوا في منزل وصفي التل. وكان وصفي مع جلالته. فذهبنا والشوارع كانت فارغة، وحسب توصية الوالد ذهبنا إلى منزل وصفي التل، وبقينا حوالي 15 يوما وعندماعدنا وجدت منزلنا محروقا، فمكثنا في منزل خالي على الدوار الثالث، وبعد أسبوعين قمنا باستئجار منزل في عمارة لبسام البخيت لمدة أربعة أشهر لحين إصلاح منزلنا.
كنا في منزل أبو مصطفى حوالي 14-15 شخصا، وكنت أنا وسمير ننام في غرفة وصفي.
استراحة
يخطر ببالكم أحيانا زيارة المنزل الذي نشأتم فيه بالدوار الأول؟
ما زال المنزل مسكونا. شقيقي وشقيقتي يسكناه، شقيقي يسكن في نفس المنزل وشقيقتي مقابله.
ولدتُ وتربيت فيه.. الآن سكنت في منزلي الحالي الذي أهداني اياه جلالته عندما شكلت الحكومة لأنني كنت أسكن في أم أذينة. جاء رئيس الحرس الملكي وأخبر الأمير الحسن بأنه لأول مرة منذ تأسيس الإمارة يأتينا رئيس وزراء يسكن في شقة، فلا نعرف خطة الدفاع عنه وحمايته كيف ستكون، ولدينا إشكالية وقد ابلغنا ذلك لجلالة الملك الحسين. وبعد ثلاثة أيام أخبرني جلالته بأن عينه علي وسيكرمني وأنه أخبر ناظر الخاصة بأن يفتش لي على منزل. ومنذ عام 1998 وأنا في هذا المنزل ولغاية الآن لا أعرف جيراني.
في الماضي كان الجار نتونس به، نعرف الجميع من منطقة الدوار الأول إلى الكلية العلمية الإسلامية، فأصبح لدينا علاقات مع العائلات، وكانت مدرستي (المطران) بجانبنا، بيننا وبينهم سور، فلذلك كلما أذهب إلى شارع الرينبو. يغمرني الفرح والشوق كثيراً، لذكريات من أجمل أيام حياتي.