الراي
مشروع «الدويلة الدرزية» الإسرائيلي هو امتداد لسياسة إسرائيلية طويلة الأمد تُحاك في الظلام، تستهدف تفكيك الدول المحيطة وتحويلها إلى فسيفساء من الطوائف المتصارعة، إسرائيل، التي تُتقن لعبة «فرق تسد»، تنظر إلى الطائفة الدرزية كفرصة استراتيجية، ليس من باب التحالف أو الشراكة، بل كوسيلة لإعادة رسم خريطة المنطقة، بدءاً من الجولان السوري ومروراً بجنوب لبنان.
وقد ظهر هذا المشروع في الوثائق الإسرائيلية منذ أوائل الخمسينيات، حيث اعتبرت قيادة الجيش الإسرائيلي أن العلاقات مع الدروز يمكن أن تُستخدم كمدخل لتقويض النظام السوري، وبرزت الفكرة بشكل أوضح بعد حرب 1967 واحتلال الجولان، حيث بدأت إسرائيل بمحاولة تطبيق هذا المخطط من خلال تقديم وعود بإقامة حكم ذاتي للدروز في منطقة جبل الشيخ، في بروتوكول الجلسة التي عقدت بتاريخ 1952/10/10 لقيادة الجيش الإسرائيلي، جاء في معرض نقاشهم حول فوائد فرض الخدمة الإلزامية على الدروز في إسرائيل ما يلي، «قادة الجيش يأملون أن تكون العلاقات الوطيدة بين دولة إسرائيل والدروز مدخلاً لتمكين الجيش الإسرائيلي من العمل بين دروز سورية بهدف تقويض وزعزعة النظام في سورية، وقد تم طرح فكرة أن تقدم إسرائيل للدروز وعداً بإقامة حكم ذاتي لهم في منطقة جبل الشيخ ضمن إطار دولة إسرائيل».
هذا المشروع، وإن بدا طموحاً، يعكس هشاشة إسرائيل في مواجهة محيط متماسك، تفكيك سوريا ولبنان يعني خلق دوليات صغيرة تحتمي بإسرائيل وتخدم أهدافها العسكرية والاقتصادية، ولكن، هذا الطموح محفوف بالمخاطر، فالدرزي الذي يحمل جذوراً في جبال الشوف أو الجولان لا يبيع انتماءه لأرضه بسهولة، تجارب الماضي أثبتت أن هذه الطائفة تتشبث بالوطن، وترفض أن تكون أداة في مشاريع خارجية.
ومع ذلك، فإن المخططات الإسرائيلية لم تمر دون مقاومة، فقد برزت شخصيات درزية مثل كمال كنج وكمال أبو لطيف، اللذين عملا على إفشال المشروع عبر كشف تفاصيله للقيادات العربية، قاما بنقل المعلومات إلى جهات مثل الملك حسين بن طلال وجمال عبد الناصر، مما ساهم في تعبئة الجبهة الشرقية لمواجهة هذه المخططات، كان من الواضح أن إسرائيل كانت تُراهن على استغلال الصراعات الإقليمية لتقوية موقفها، ولكنها لم تتوقع أن تكون هناك مقاومة محلية قادرة على عرقلة خططها.
في ظل التطورات الأخيرة في المنطقة، وتزايد الأنشطة العسكرية الإسرائيلية في الجولان بعد الثورة السورية عام 2011، برزت دراسة مهمة أُصدرت عام 2016 من معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب، تناولت سبل التعاون المحتمل بين إسرائيل والأقليات في سوريا، ومنها الطائفة الدرزية، وأشارت الدراسة إلى أن عدة عوامل قد تجعل الدروز مرشحين طبيعيين للتعاون مع إسرائيل، من أبرز هذه العوامل، ضعف النظام السوري وتزايد التحديات التي يواجهها، مما قد يدفع بعض الأصوات بين الدروز إلى المطالبة بمراجعة تحالفاتهم التقليدية، بالإضافة إلى ذلك، تقع القرى الدرزية في سوريا بالقرب من الجولان المحتل، وهو ما يفتح الباب لإقامة قنوات اتصال بين الجانبين، وأخيراً، تسعى إسرائيل إلى تعزيز علاقتها بالدروز في سوريا من خلال الدعم مالياً وعينياً، مما يفتح المجال لمزيد من التعاون بين الطرفين.
ومع ذلك، فإن هذه المبادرات الإسرائيلية تبقى محفوفة بالتهديدات الإقليمية والدولية، إيران وروسيا وتركيا، على سبيل المثال، لن تسمح بقيام كيان طائفي يغير من توازن القوى في المنطقة لصالح إسرائيل، هذه التحديات جعلت من المشروع الإسرائيلي في المراحل المبكرة حلماً غير قابل للتحقق.
الأخطر في هذا المخطط هو تأثيره الإنساني، ستنزف المجتمعات الطائفية، وسيتحول الأبرياء إلى وقود لمشروع لم يُكتب له الاستقرار، إسرائيل تراهن على إحياء الحروب الأهلية، لكنها تغفل حقيقة أن نار الطائفية غالباً ما تلتهم من يشعلها.
إذن، المشروع ليس سوى طموح استراتيجي محفوف بالوهم، يعتمد على تفتيت دول عريقة في تركيبتها الاجتماعية. نجاحه يبدو بعيد المنال، ليس فقط بسبب رفض الدروز أنفسهم، ولكن أيضاً بسبب تعقيدات المشهد الإقليمي، ووعي الشعوب التي أصبحت أكثر دراية بمخططات التقسيم.
وعلى الرغم من محاولات إسرائيل المستمرة، من خمسينيات القرن الماضي وحتى العقد الأخير، لاستغلال الانقسامات الطائفية لتحقيق هذا المشروع، إلا أن الوعي المجتمعي والمقاومة المحلية، كما حدث في الجولان وفي الأوساط الدرزية اللبنانية والسورية، أظهرت أن مثل هذه المشاريع تظل محفوفة بالعوائق السياسية والإنسانية.
هذه ليست مجرد لعبة سياسية، إنها مقامرة على استقرار الشرق الأوسط بأكمله.