عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Sep-2025

بين العلاج النفسي والـ"هيلينغ".. وعي يتشكل في مواجهة الوصمة الاجتماعية

 الغد-رؤى أيمن دويري

في السنوات الأخيرة، تحول الحديث عن الصحة النفسية إلى ما يشبه "التريند" فلم يعد موضوعا مسكوتا عنه كما كان في السابق. على منصات التواصل الاجتماعي، بات الشباب يتداولون مصطلحات مثل العلاج النفسي، الشفاء الذاتي، الهيلينغ، والوعي الذاتي بشكل يومي، سواء للتعبير عن تجاربهم الشخصية أو لمتابعة محتوى يقدم على شكل نصائح وإرشادات.
 
 
الاستشارية النفسية الدكتورة فيروز مصطفى ترى أن هذا التحول يحمل أكثر من جانب. من جهة، هذه المصطلحات لامست وجعا كان موجودا منذ زمن عند كثيرين، لكنهم لم يجدوا له لغة واضحة للتعبير. 
تضرب مثالا بمصطلح "النرجسية"، الذي انتشر مؤخرا بشكل واسع، رغم أن العلاقات المسيئة ليست جديدة. الفرق، كما تقول، أن الناس أصبح لديهم اليوم لغة لتسمية المشكلة والتحدث عنها ومشاركتها، ومع وسائل التواصل توفرت مساحة أوسع لعرض هذه التجارب.
لكن، هل هذا الانتشار يعكس تحولا حقيقيا في وعي المجتمع، أم أنه ما يزال محكوما بالوصمة الاجتماعية والتصورات المغلوطة؟
بحسب جمعية الطب النفسي الأميركية، يعد جيل "Z" (المولودون بين 1997 و2012) الأكثر استعدادا لطلب المساعدة النفسية، إذ خضع 37 % منهم للعلاج النفسي أو جلسات الدعم. الأهم أن هذا الجيل لم يعد يرى في طلب المساعدة ضعفا، بل يعده خطوة شجاعة وقوة شخصية.
هل وصمة "العلاج النفسي"
ما تزال حاضرة؟ 
وتشير الدكتورة فيروز إلى أن الانفتاح الثقافي والإعلامي ساهم بدور كبير في هذا التغيير. كثير من الشباب اليوم صاروا أكثر تقبلا لفكرة العلاج النفسي، ويرون في طلب المساعدة دليلا على القوة، لا الضعف. ومع ذلك، تؤكد أن وصمة "العلاج النفسي عيب" ما تزال قوية في مجتمعاتنا، لأنها متجذرة في ثقافة تعزز الخجل والعار في كل شيء.
أما على مستوى المنطقة، فقد أظهر تقرير لليونيسف عام 2025 أن 40 % من الشباب في الشرق الأوسط يشعرون بالوصمة إذا تحدثوا عن مشاكلهم النفسية في المدارس أو أماكن العمل. نصف هؤلاء فقط يعرفون إلى أين يتوجهون للحصول على دعم مناسب. الأرقام تكشف فجوة بين وعي متنام ورغبة في الحديث، وبين واقع ما يزال مقيدا بالحرج والخوف من الأحكام الاجتماعية.
في الأردن ومجتمعات عربية أخرى، شباب يروون تجاربهم مع السخرية أو الاستهجان عندما يخبرون أسرهم بأنهم يعانون نفسيا. أحد الشباب كتب على منصة "اكس": "المجتمعات ما بتقبل الإشي اللي مش متعودة عليه… كثير منا بيروح على أطباء نفسيين، فشوي شوي بيتغير الوضع".
وعلق آخر قائلا: "ليه العلاج النفسي لسة بنشوفه كعيب أو ضعف؟ .. اللجوء لمعالج نفسي مش دليل فشل، بل قوة وشجاعة".
بينما ذهب أحد المشاركين إلى ربط الصحة النفسية بأسلوب الحياة قائلا: "الصحة النفسية مرتبطة بشكل كبير بأسلوب الحياة.. كثير من السكان غير راضين عن حياتهم… الثقافة هي اللي مخلية أغلبهم غير سعداء بحياتهم".
قصص يتحدثون بها
كـ"ناجين لا كضحايا"
الدكتورة فيروز ترى أن مشاركة التجارب الشخصية تؤدي اليوم دورا مهما في رفع مستوى الوعي. كثير من الذين يروون قصصهم يتحدثون كـ"ناجين لا كضحايا"، وأصواتهم صارت مسموعة أكثر من أي وقت مضى. بعض هذه القصص ساعدت على تصحيح صور نمطية عن الأمراض الجسدية والنفسية، مثل الحديث عن تجربة السرطان من زاوية نفسية بعيدا عن التركيز على المظهر الخارجي.
بين العلاج والشفاء الذاتي
غياب الخدمات الميسرة وارتفاع تكلفة الجلسات النفسية فتح الباب أمام بدائل مختلفة. جلسات "الهيلينغ" أو محتوى "الوعي الذاتي" المنتشر على السوشال ميديا صار شائعا، بل تحول إلى مساحة يجد فيها بعضهم عزاء أو أدوات بسيطة لتخفيف الضغط.
 وفي مواجهة هذه التحديات، توفر التكنولوجيا والإنترنت فرصا للشباب للوصول إلى محتوى موثوق ومتابعة مختصين معتمدين على منصات التواصل، وحضور محاضرات وجلسات قصيرة تساعدهم على فهم مشاعرهم والتعامل معها بشكل صحي. ومع ذلك، تظل أهمية التحقق من مصداقية المصادر عالية لتجنب المعلومات غير الدقيقة أو التفسيرات الخاطئة.
وتؤكد الدكتورة فيروز أن اختلاف المعنى الشعبي لهذه المصطلحات عن المعنى الأكاديمي أمر طبيعي. فالعلوم الإنسانية لا يمكن فصلها عن الناس، كما تقول والتبسيط بلغة قريبة لا يبتعد عن جوهر علم النفس. لكنها تحذر من أن الانفتاح قد يجعل المجال فضفاضا، ما يسمح بدخول أشخاص غير مؤهلين. بعضهم يدخل بدافع حسن نية، وآخرون للاستغلال المادي.
"الكوتشينغ" والتأمل
والعلاج البديل
وتلفت إلى جانب تجاري متنام في هذا المجال، إذ باتت ممارسات مثل "الكوتشينغ" والتأمل والعلاج البديل صناعة تدر مليارات الدولارات حول العالم. ورغم أنها تجذب المتابعين وتلبي حاجة نفسية حقيقية، فإن الكوتشينغ مثلا ما يزال مجالا غير مرخص، ما يفتح الباب أمام أخطاء. لذلك؛ "المصداقية أهم شيء، وإذا لم تكن تعرف كيف تساعد شخصا يتألم، فقل ببساطة: لا أعرف".
خبراء الصحة النفسية من جانبهم يحذرون من أن الاعتماد على "الشفاء الذاتي" أو تشخيص الذات قد يقود أحيانا إلى تضخيم مشاعر عابرة أو تجاهل مشكلات تحتاج إلى علاج مهني متخصص. لذلك، يبقى السؤال: هل هذه الظواهر مكملة للعلاج أم بدائل وهمية تزيد من الضبابية؟
المنطقة العربية تواجه تحديات واضحة في هذا الملف. من أبرزها نقص الكوادر والخدمات النفسية، إضافة إلى المعتقدات الاجتماعية الراسخة التي تربط الاضطرابات النفسية بالقوى الغيبية أو العقاب الإلهي.
الدكتورة فيروز ترى أن الحل يبدأ بالوعي الفردي. على الشخص أن يعرف ما يحتاجه: هل هو دعم من لايف كوتش، أو استشارة نفسية، أو علاج نفسي متخصص، أو متابعة طبية. وتشدد على أهمية بناء المشاعر السليمة منذ الطفولة عبر برامج توعية للأمهات والأطفال، مع الاستفادة من الإعلام كوسيلة سريعة للتأثير.
وتضيف أن دمج الدعم النفسي ضمن الرعاية الصحية الأولية خطوة مهمة لكنها غير كافية. بعض الحالات، مثل ضحايا الاعتداءات أو العلاقات السامة، تحتاج إلى برامج علاج معمقة. لهذا، لا بد من مبادرات أوسع وأكثر عمقا على مستوى الأسرة والمدرسة والإعلام، حتى يتحول الاهتمام بالصحة النفسية من مجرد ترند عابر إلى ثقافة مجتمعية راسخة.
خطوات نحو النمو الشخصي
من جهتها تدعو منظمة الصحة العالمية إلى تطبيق "خطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013–2030"، التي تركز على رفع قيمة الصحة النفسية في المجتمعات، دمجها في البيئات التعليمية والعملية، وتوفير دعم ميسر وموثوق للأفراد.
الصحة النفسية بالفعل أصبحت تريندا، لكن التحدي الأكبر يكمن فيما بعد الترند. هل سيتمكن هذا الزخم الرقمي من التحول إلى ثقافة مجتمعية راسخة، توفر للشباب خدمات علاجية ميسرة وموثوقة، وتكسر حاجز الوصمة؟ أم سيبقى مجرد موجة عابرة على شبكات التواصل؟
المؤكد أن مشاركة الشباب لأصواتهم وتجاربهم، إلى جانب دعوات الخبراء، تفتح الباب أمام فرصة حقيقية لتغيير النظرة المجتمعية تجاه الصحة النفسية. الأهم أن يدرك كل فرد أن طلب المساعدة ليس ضعفا، بل خطوة نحو النمو الشخصي، وأن المجتمعات، من الأسرة إلى المدرسة ووسائل الإعلام، يمكن أن تؤدي دورا محوريا في دعم هذا التغيير. إذا تم تعزيز هذا الاهتمام بالوعي والتعليم والمبادرات العملية، يمكن للترند أن يتحول إلى ثقافة مستدامة توفر دعما حقيقيا لكل من يحتاج إليه، وتضمن أن تصبح الصحة النفسية حقا متاحا ومقبولا للجميع.