عمان - الدستور- محمود كريشان - اليوم.. وكل يوم يشتعل القلب شيبا عندما تصادف الذكرى الثامنة والاربعون لاغتيال شهيد الوطن الكبير وصفي التل، الذي غادرنا اخضر يانعا قبل الاوان وقد نالت منه الرصاصات الموسادية الصدئة، ليعانق عطر الشهادة وقد ازهر دمه الارجواني شيحا ودحنونا فوق الارض الطيبة..
ورقة نادرة
.. الحكاية تبدأ بشجرة بلوط عمرها الدهر، تتربع في ذاكرتنا، تتجذّر في ضمائرنا، تحمل في شموخها صورة «وصفي التل» في منزله الرابض على تلال الكمالية الحانية حيث حصلت «الدستور» على ورقة نادرة جدا كتبتها «بخط اليد» زوجته المرحومة سعدية الجابري تشرح من خلالها قصة بناء المنزل وتنشر للمرة الأولى وجاء فيها على لسان المرحومة الجابري:
مطلع العام 1951 قررنا بناء بيت صغير وتم اختيار الأرض لحسن موقعها، وجمال نضرتها، والمسماة بـ»أم النعاج» نسبة إلى الصخور المتحجرة على شكل نعاج منذ غابر الزمن، وعلى قطعة الأرض هذه البالغ مساحتها ثلاثة دونمات والمطلة على سهل البقعة شرقاً والمشرفة على طريق السلط عمان وهضاب الحمّر غرباً، وتمر من أمامه طريق عمان السلط والقدس الشريف، و(المنطقة) تطل على مناظر خلابة منها سهل البقعة... وكان المكان موحشاً، عدا في الهضاب، وكانت بعض الحيوانات المفترسة تحوم حولنا مثل الضباع و(الواويات) والثعالب وقد انقرضت هذه الحيوانات في هذا المكان في وقتنا الحاضر.
تقليص النفقة
وتضيف المرحومة الجابري: كانت نواة هذا البيت عبارة عن غرفتين ومرافقهما الأساسية، ورأينا في حينه أن تستعمل إحدى الصخور الضخمة لتقليص النفقة بالأساسات الإنشائية، وذلك بناءً على نصيحة أحد المهندسين من أصدقاء وصفي، وقد بنينا البيت على الطريقة العربية القديمة دون استعمال الاسمنت، وتم بناء هذا البيت بالمواد الأولية المحيطة به والواقعة ضمن حرش البلوط، ولم يكن هناك مخطط للبيت منذ العام 1951 حتى العام 1967 حتى خرج من اَخر عامل، ولم نستعن بأي مهندس، وتم البناء بالطريقة التقليدية المحلية، أي باستعمال الدبش والصخور والحجارة الممزوجة بالطين المخلوط بالتبن والقش؛ ما جعل سمك الحوائط الخارجية حوالي 85 سم لتوفير العزل الكافي للحرارة والبرودة، وقام بالبناء عمال وبناؤون محليون، وعلى مراحل زمنية متفاوتة، تم توسيع البيت، وفي إحدى عمليات التوسيع العام 1963 تم استقدام حرفيين من القدس الشريف، لبناء سقف عقد لإحدى الغرف وإضافة للمواد الأساسية المذكورة أعلاه تم استعمال أغصان الزيتون للقالب العقدي، وقد تم إتمام كافة أعمال البناء وأصبح البيت على شكله الحالي منذ العام 1967.
تين وكرمة
واشارت المرحومة الجابري: روعي دائماً أن تكون خطوط الهندسة والبناء بسيطة، غير معقدة، وبعد فترة زمنية قصيرة اشترينا بضعة دونمات إضافية لتوسيع محيط الأرض، وشيدنا السلاسل بالطريقة التقليدية، للحفاظ على التربة وكفاءة الري وعدم الانجراف، بالإضافة إلى أشجار الخروب والزيتون والبلوط والصنوبر، تم زراعة بعض الأشجار المثمرة والتي كانت بمعظمها تين وكرمة وإضافة إلى ذلك هنالك الياسمين العادي والبري، وتم استنبات الأزهار والأعشاب المحلية البرية وغيرها كالورود.
وأقول: إن البناء كان موفقاً لأنه لم يكن تقليدياً، وله طابع شخصي خاص، وأجمل غرفة فيه هي الغرفة ذات السقف العقد، وقد جئنا بحرفيين في ذلك الوقت من القدس، وإنني أفتخر بهذه الغرفة كثيراً، بشكلها العربي الإسلامي الجميل، وقد استمر العمل في هذا البيت سنين عديدة،لأسباب عديدة منها الميزانية غير الكافية من البداية، ولذلك فقد تم البناء على مراحل وفي عام 1963 أضفنا غرفة سقفها عقد وقد أحضرنا حرفيين من القدس، وعملنا هذه الغرفة وقد تم تقطيع أغصان الزيتون ووضعها تحت العقد، ثم وضعت طبقة من القش والطين فوقها، وقد بنيت هذه الغرفة بالحجر والدبش والطين.
يشبه بيوت القدس
وقالت المرحومة الجابري: المظهر بسيط جداً وبأحجار محلية، ويشبه بيوت خرج مدينة القدس على طريق بيت لحم، ومزينة من الأعلى بالحجارة على شكل حصن، وأستطيع أن أقول إن كل شيء حولنا اتبعت فيه البساطة، وقد بنينا سلاسل بشكل دائري بالطرق التقليدية للمحافظة على التربة على طريقة الكنتور للمحافظة على التربة من الانجراف.
وقد راعيت في هذا البستان الذي أصبح كبيراً جداً أن أزرع الزهور البلدية البرية مثل قرن الغزال البري والريحان والورد مع الاشجار والورد الجوري والنرجس وجميع الأبصال البرية وقد ضم هذا البستان عدة اَبار، حيث نحصل على المياه من مياه الأمطار لعدم وجود خدمات المياه في ذلك المكان في ذلك الزمان، وجعلنا القنوات التي شقيناها على العادة المعروفة في بلادنا.. وكانت هذه الاَبار تمتلئ من القنوات المحفورة بالجبال، وكانت أغلب المدن في بلادنا تحتوي على اَبار، بعضها تجميع من الأسطح، أو الأقنية الترابية من الجبال، وكنا نحفر الآبار الواحدة تلو الاَخرى، حتى أصبح لدينا ست اَبار كنا نحفرها في بعض الوقت في الصخر، وكنت أصر على أن تكون قصارة البئر بعدم استعمال الإسمنت، لأن الإسمنت يغير طعم الماء أو يترك طعماً بالماء، ولأن الطريقة القديمة أبسط وأفضل، وكنا نملأ هذه الاَبار من الأمطار الغزيرة في الشتاء، إذ كنا نفتح قنوات من الجبال التي حولنا ونوجه هذه الأقنية إلى حوض حيث يتم تصفيتها في الحوض وبعد ذلك تنزل إلى البئر خالية من الرمال والأوراق، وهذه هي الطريقة القديمة في ملء الاَبار.. وتم إنشاء أيضاً حوض للسباحة للجمال والمتعة.
الضريح من حجر معان
وتضيف المرحومة الجابري حول ضريح وصفي: ان الشخص الذي ساعد في بنائه على الشكل العربي الإسلامي هو الشيخ عمر الهشلمون الذي كان خبيراً في فن الهندسة الإسلامية وعمره تسعون عاماً، وكان يرسم على البلاط خطوط القباب والإيوان الصغير والكبير على الأرض وينقلها سلاح الهندسة إلى الموقع، وكان الشيخ عمر الهشلمون حرفياً يعرف صنعته وسر المهنة، وقد ساعدني في عمل الشبابيك التي تسمى الزلاق التي تدخل شمس الشروق من أحدها وشمس الغروب من الثاني، وعلى دائرها من الأسفل عملنا ثمانية شبابيك مغلقة وقد استعملت في هذا البناء الحجر الأردني من معان والزرقاء، وقد بنيناها من الداخل ومن الخارج بالحجارة فلا يوجد فيها أي قصارة ولا أي خطوط، وقد عمل الحرفيون جهدهم على أن يكون وصل الحجر بعضه مع بعض بدون تكحيل، وبدون إسمنت، وبطريقة لا ترى.
أما بالنسبة للقبب، فقد كانت مهمة صعبة وقد كان عندي بعض الشكوك في حينها، فالقبة على السطح تشكل غرفة لها باب مستقل وقد تيقنت بعد ذلك بوجود مثل هذه القباب في العالم الإسلامي، وفي الداخل ولكي يفصل الضريح عن المحراب استعملنا مشربيات وجدتها في مصر وعددها ستة من الخشب القديم، وللجامع مساحة في الخارج للصلاة، وقد ساعد في البناء الحاج صلاح من الخليل، فقام بعمل هلالين من الحجر بشغل يده وهو شقفة واحدة فوق القبة.
الغرفة الهامة جدا
وفي احدى الغرف الصغيرة ضمن الطابق الارضي للمنزل كانت تعقد لقاءات هامة بين الملك الحسين ووصفي التل وكبار مسؤولي الدولة توجه دفة البلاد في عقد ملتهب ولقاءات اخرى مع بعض قادة التنظيمات الفلسطينية من ضمنهم امين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش.
وتتوسط هذه الغرفة التي تسمى الخلوة طاولة من نحاس ترقد نسخة من القرآن الكريم بدا أن اوراقها لم تمس منذ غادرها صاحبها ذات زمن، ومكتبة حائطية مليئة بالكتب النادرة والهامة مثل جيل الفداء، وقصة الثورة الكبرى ونهضة العرب، كذلك تتضمن حماما منفصلا وشباكا مشمسا يطل على الحديقة وكراسي خشبية من الجلد القديم وتلفزيونا وراديو وبعض التحف الزجاجية.