عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Jul-2024

شجون خطاب منظمة التحرير الفلسطينية*رشا سلامة

 الغد

قد يخال البعض أنّ إجابة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كانت عفوية، حين سُئل وهو راحل عن بيروت في العام 1982 «الآن إلى أين؟»، فقال «إلى فلسطين».
بيد أنّ الأمر لم يكن كذلك؛ إذ كانت مرحلة المكوث في تونس انتقالية نحو حل سلمي يُطبَخ، تقوم بموجبه دولة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967.
 
وقد يظن آخرون أنّ خطاب السلام الذي تبنّته المنظمة في مرحلة تونس، وما تلاها، كان مفاجئاً، غير أنّه لم يكن كذلك؛ وفقاً لدلائل كثيرة تشير إلى أن هذا الحل كان مطروحاً حتى في ذروة الكفاح المسلح لمنظمة التحرير الفلسطينية.
بالعودة لخطاب عرفات في الأمم المتحدة في العام 1974، يجد المتابِع أنه طرح السلام برسالة مبطّنة، من خلال عبارة كتبها له الشاعر الراحل محمود درويش، يقول فيها «جئت حاملاً غصن الزيتون في يد واحدة، وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى. فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي».
ثمة دلائل أخرى من قبيل تكليف عرفات لموفد منظمة التحرير الفلسطينية في لندن الدكتور سعيد حمامي بطرح دعوات التعايش والسلام بين الفلسطينيين من جهة، ومن يتحمّس للسلام من الإسرائيليين من جهة أخرى، من خلال مقالاته وخطاباته هناك، ما أفضى لاغتياله في العام 1978؛ إذ كان الطرح السلمي في ذلك الحين ما يزال مستهجَناً من قِبل الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
الأمر ذاته كان قائماً في حالة الشهيد الدكتور عصام السرطاوي، الذي كان مستشاراً لعرفات وموفداً للمنظمة في البرتغال، والذي بدأ مباحثات سلمية في العام 1976 مع إسرائيليين مؤمنين بمشروع الدولة الفلسطينية، ما أفضى لاغتياله في العام 1983.
ويقول دينيس روس في كتابه «السلام المفقود» إنّ عرفات أخبره بأنه كان يهمّ باللحاق بالرئيس المصري أنور السادات في العملية السلمية، لولا خشيته من تبرّم أنظمة عربية من خطوة كهذه.
ما سبق، قد يجعل البعض يحار في ازدواجية الخطاب السياسي الفلسطيني، ليس في مرحلة تونس وما تلاها، بل وحتى في مرحلة بيروت؛ إذ في الوقت الذي كانت فيه قعقعة السلاح تصمّ الآذان، فإنّ الحلّ السلمي كان مطروحاً أيضاً. يفسّر هذا الأمر، القيادي في الجبهة الديمقراطية الراحل ممدوح نوفل، في حديثه لبرنامج «حكاية ثورة» الذي قدمته الجزيرة الوثائقية قبل عقد ونيف؛ إذ يصف عرفات بمن كان يُشرع نوافذه للكل، وبأنه لم يكن يغلق نافذة؛ لعل كل فرد يأتي له بشيء قد يفيد القضية الفلسطينية، ولم يفلح الآخر في جلبه.
أما لماذا دُشّن خيار السلام رسمياً وعلى مرأى الجماهير منذ مباحثات مدريد وما تمخّض عنها في أوسلو، فإنّ ثمة عوامل عدة قد تكون أفضت لهذا، من بينها وقف الكفاح المسلح بمجرد مغادرة بيروت؛ إذ اشترطت القوات الدولية تسليم المقاتلين الفلسطينيين أسلحتهم قُبيل خروجهم على ظهر الناقلة اليونانية وغيرها، بالإضافة لتشتيت شمل المقاتلين الفلسطينيين؛ إذ جَرَت بعثرتهم كالتالي، وفقاً لوزارة الخارجية الأميركية: 970 مقاتلاً إلى تونس، و261 إلى الأردن، و136 إلى العراق، و1093 مقاتل إلى اليمن الجنوبية، و841 إلى اليمن الشمالي، و448 إلى السودان، و588 إلى الجزائر، و3900 إلى سورية.
فتحت تونس ذراعيها لاستقبال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، دونما تردّد؛ إذ يقول وزير الخارجية التونسي الأسبق الباجي السبسي إنها كانت من المرات القلائل التي اتخذ فيها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة خياراً خارجياً من دون الرجوع إليه، كما هرعت زوجة الرئيس وسيلة بن عمّار بنفسها لاستقبال المقاتلين والجرحى والقيادات أثناء وصولهم تباعاً؛ تشدّ من أزرهم وتعدهم بالنصر القريب والاستقلال كما تونس والجزائر، بيد أنّ اشتراطات تونس كانت واضحة في هذا السياق؛ إذ تم استقبال القيادات وعائلاتهم في مناطق فارهة مثل سيدي بو سعيد، لكن القوى المسلّحة الفلسطينية التي لم يتجاوز عددها في تونس 970 مقاتلاً، بحسب الأرقام آنفة الذكر، فقد اشترِطت إقامتها في مناطق بعيدة عن مراكز السكن والتجمّع، منها حمام الشط، ومن دون إحداث مظاهر عسكرة.
لذا، فقد كانت القيادة الفلسطينية في موقف لا تُحسد عليه: البُعد الجغرافي عن فلسطين بات كبيراً هذه المرة، كما رُفِعَت يدها قسراً عن أي نشاط مسلّح منذ الخروج من بيروت، بالإضافة إلى عامل حرب الخليج الذي استجدّ لاحقاً؛ إذ اندلعت الحرب خلال 1991 - 1990، لتراهن القيادة الفلسطينية على الحصان الخاسر: صدام حسين، ما أفضى لاحقاً لتجاهلها وتهميشها عربياً، بالإضافة لإيقاف ضخّ التمويل الخليجي الذي كانت تحظى به المنظمة بشكل شبه ثابت، عدا عن ترحيل ما يقارب نصف مليون فلسطيني من الكويت.
ثمة مخرج عفوي ظَهَر في تلك الحقبة، كان الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت شرارتها في العام 1987، حيث كانت هبّة شعبية شاركت فيها أطياف الشعب الفلسطيني برمّتها، بيد أنّ القيادة الفلسطينية حاولت استثمارها لاحقاً لإحراز تقدم سياسي لصالح الفلسطينيين، وكان الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، على رأس من عكفوا على هندسة الانتفاضة وتنظيم عملياتها، ما أفضى لاغتياله لاحقاً في العام 1988، على إثر عملية مفاعل ديمونا التي خطّط لها.
لم يطل المقام بالفلسطينيين كثيراً بعد اندلاع انتفاضتهم حتى بادر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش بطروحات ترفد العملية السلمية المزمعة؛ إذ دُشّنت مباحثات مدريد في نوفمبر 1991، ليترأس الدكتور حيدر عبد الشافي الوفد الفلسطيني في تلك المباحثات، التي أفضت لاحقاً لإبرام اتفاقية أوسلو.
وبرغم تخوّف عرفات من اعتبار نجوم مباحثات مدريد: الدكتورة حنان عشراوي والدكتور حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني، قيادة بديلة عن المنظمة، فإنّ الخطاب السياسي الذي وَسَمَ تلك المباحثات كان يعبر عن رؤى رأس المنظمة ياسر عرفات وتوجّهاته، بل هو لم يخرج قيد أنملة عن المظلة العرفاتية.
يقول نوفل عن كتابة الوفد الفلسطيني الخطاب الرسمي في مباحثات مدريد «الخطاب الذي ألقاه حيدر عبد الشافي كتبته حنان عشراوي وساهم فيه ممدوح نوفل ونبيل شعث وأكرم هنية ولكن في الأخير أُرسِل الخطاب لتونس وبقينا ننتظر حتى الخامسة صباحاً حتى جاءت (على بركة الله) بخط عرفات مع تصحيحات».
باغتيال صلاح خلف (أبو إياد) وأبو جهاد، ترنّحت المنظمة أيّما ترنّح؛ إذ كان الأول دماغ المنظمة وصائغ خطابها وتوجّهاتها لا سيما ما يتعلق بشقّ التعامل مع الأنظمة العربية، فيما الثاني كان العقل المدبّر للعمليات التي تتبنّاها المنظمة، المخفية منها والمُعلَنة.
تصدّى أبو إياد في سنيّ عمره الأخيرة للترويج لخطاب المنظمة الرامي لتكريس العملية السلمية. وامتاز الخطاب الجديد بخصائص عدة مثل ربط الظلم الذي حاق بالفلسطينيين بذاك الذي تعرّض اليهود لشيء منه إبّان المحارق النازية، عدا عن تحليل دواخل مجتمع الاحتلال الإسرائيلي مثل أصول اليهود والمعاملة التي يلقون، والفجوة بين شعب الكيان الإسرائيلي وقيادته، بالإضافة لتغليب نبرة التفاؤل والأمل والتسامح على الخطاب الفلسطيني، وتخفيف إن لم يكن تحييد النبرة الثورية التي امتاز بها الخطاب في مراحل سابقة.
أبو جهاد كان هو الآخر من القادة الذين تصدّوا لخطاب فلسطيني من نوعٍ خاص، وتحديداً ما يتعلق بالانتفاضة؛ إذ كرّس أبو جهاد من التوجّه القائل إنّ إقامة الدولة الفلسطينية جزء من النضال الوطني الفلسطيني وليس العكس، وبأنّ الانتفاضة ذات مطالب سياسية وليست عبثية، وهو ما ذهب إليه أبو إياد سابقاً حين ركّز على قيمة حياة الفرد الفلسطيني، وبأن النضال مدروس وليس الهدف منه استنزاف أرواح الفلسطينيين من دون تحقيق هدف ملموس على الأرض.
يبدو أني سرحت كثيرا في ما مضى. حين هممت بكتابة شيء عن خطاب منظمة التحرير الفلسطينية الراهن تذكرت عبارة قالها مغترب أميركي عن دولة عربية ذات مرة، «هناك صمت وهدوء، لكنه صمت الأموات وهدوؤهم».