الراي
ما زالت حيّة في الذاكرة الرحلة الرسوليّة التي قام بها البابا يوحنا بولس الثاني عام 2000 للأردن كمدخل لرحلة الحج التاريخيّة إلى الأراضي المتعلقة بالخلاص. وقد عملتُ وقتها ناطقًا إعلاميًّا باسم الكنيسة الكاثوليكيّة، ولمست حجم الثقل الكبير لزيارة البابا الكبير في عام اليوبيل الكبير. ولقد حظينا في الأردن بيومي 20 و21 من آذار بزيارة أقل ما توصف به بأنّها تاريخية ومقدّسة.
نعم، جاءت الزيارة في غمرة إحياء العالم لألفي سنة على ميلاد السيّد المسيح، ولم يرد البابا القديس أن «يمشّي» تلك السنة إلا بزيارة الأرض المقدّسة التي سبقه إليها فقط البابا القديس بولس السادس عام 1964، واستقبله وقتها الملك الراحل الحسين بن طلال في مطار ماركا، إلاّ أنّه بقي يرافق الموكب البابوي في بيت لحم والقدس ونابلس من طائرته العموديّة.
لكن بين 1964 وعام 2000 حدثت أمور كثيرة، وأبرزها الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربيّة والقدس الشريف، قد حصلت وغيّرت كل المزاج العام. وكان تأجيل الزيارة واردًا، لولا إرادة البابا الذي أرادها كتتويج لتحضيرات الكنيسة لاستقبال عام 2000، وزار قبلها مصر الشقيقة، وجاء إلى الأردن وفلسطين، وأعقبها بزيارة إلى سوريا، بعدها إلى اليونان، على خطى الرسل من بعد صعود السيّد المسيح.
أردنيًّا، كان الملك عبدالله الثاني قد تسلّم للتو سلطاته الدستوريّة من بعد رحيل الأب الكبير الحسين الباني، لكنّ التحضيرات لدينا قد سارت بامتياز وحنكة وحكمة ودراية. وأشار الملك الذي استقبل بعدها البابا بندكتس رحمه الله والبابا فرنسيس شفاه الله، في كلمته الترحيبية في مطار عمّان إلى أنّ «هذه الزيارة البابويّة تذكرنا بحقائق هامة، عسى ألا تغيب يومًا عن أذهاننا وهي فضائل الإيمان والحاجة الماسة لإطفاء الأحقاد والعداوات». أمّا البابا فأوضح أنّ «الكنيسة الكاثوليكية لا تنسى بأنّ واجبها الأساسيّ هو واجب روحانيّ، لكنها مستعدّة للتعاون مع كل ذوي الإرادة الحسنة من أفراد ومؤسّسات من أجل إعلاء الكرامة الإنسانيّة. وأشاد بالحريّة الدينيّة في الأردن التي تتيح للمواطنين جميعًا أن يعملوا لخير البلد ومستقبله واستقراره.
وفي صبيحة اليوم التالي، يوم الكرامة ويوم الأم، كان القداس الحاشد، وهو الأوّل في استاد عمّان الدولي، وحضره على ما أذكر ستون ألف شخص جاءوا منذ الصباح الباكر من كلّ أنحاء الأردن ومن دول مجاورة. وبعد القداس، وبعد غداء في مطرانيّة اللاتين في عمّان مع بطاركة وأساقفة الوطن العربي، انطلق الموكب ولأوّل مرة إلى المغطس حيث موقع المعموديّة، مدّشنًا بذلك أولى رحلات الحج إلى هذا الموقع الفريد في العصر الحديث. وحضر الصلاة عند تلة مار الياس أربعون ألف شخص، أضاءوا الفي شمعة، ودشّنوا مع البابا السياحة الدينيّة الهامّة إلى موقع المعموديّة. كانت التساؤلات وقتها كثيرة حول «أصالة» موقع المعموديّة في الجهة الشرقيّة لنهر الأردن. وبذل وزير السياحة آنذاك عقل بلتاجي، الذي نذكره بالخير ونترحّم على روحه النبيلة، وبتوجيهات من صاحب السمو الملكي الأمير غازي بن محمد، جهودًا كبيرة لنصل الى حيث وصلنا اليوم من أهمية عالمية لموقع المغطس شرقيّ النهر.
وهنا استذكر الكلمات الأخيرة التي قالها البابا في المغطس، وهي محفورة في القلب والوجدان، قبل أن يضعها رحمه الله المهندس ضياء المدني المدير الأسبق للموقع في عام 2014 على واجهة المدخل مع صورة للبابا وهو يصلّي على تلة مار الياس: «في صلواتي سأذكرُ دائمًا الشعب الأردني، بمسيحييه ومسلميه، وبالأخصّ من أجل المرضى والمسنين. ليبارك الله الأردن، وملك الأردن، والشعب الأردني».
ما أجمل استذكار الرحلة الرسولية، بعد ربع قرن، أي في يوبيلها الفضيّ الكريم....