عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Dec-2019

لطيفة النجار.. مسنّة فلسطينية تصنع “أفران الطين”

 

غزة- بصوتها المنهك، تغنّي الفلسطينية لطيفة النجّار (77 عاما) أغانٍ تراثية كي تتناسى تلك الآلام الناجمة عن الخدوش والجروح التي تسببها الحجارة الصغيرة على كفيّ يديها، وهي تبني أفرانا طينية لإعداد الخبز.
 
ومن بين أفران الطين، التي اتخذت من قارعة الطريق في أقصى شرقي حدود مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، محلا لها، يتسلل هذا الصوت الهرم إلى آذان كل من مرّ على الحاجة لطفية وهي تردد “هذي (هذه) أرضي وأرض جدودي (أجدادي)، ما بتخلّى عن حدودي، هذي أرضي وأرض أولادي، ما بتخلّى عن بلادي”.
 
“صناعة أفران الطين”، هي حرفة توارثتها هذه الفلسطينية عن والدتها وأجدادها، في محافظة منها على التراث والثقافة الفلسطينية الشعبية، حسب قولها.
وبدأت النجّار صناعة هذه الأفران منذ نحو ثلاثين عاما، حيث تتخذها مهنة لها في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية، كما قالت.
 
بعينيها الصغيرتين اللتين تأذتا من أشعة الشمس، طيلة الأعوام الثلاثين الماضية، تنظر السيدة النجّار إلى الوعاء الصغير الذي تصنع فيه عجينة الأفران والمكوّنة من “الطين، والقليل من الأسمنت، والقش”، وتغرف بكفّ يدها القليل منه لاستكمال عملية بناء أحد أفرانها الطينية.
 
وتدهن المرأة العجوز هذا الخليط على سطح الفرن، وتكرر هذه العملية يوميا لساعات، وعلى مدار عدة أيام، كي يتماسك الهيكل الخارجي للموقد، ويصبح جاهزا للاستخدام.
 
“مهنة شاقة جد لكنّها لازمتني منذ صغري ولا أشعر بالتعب وأنا أمارسها رغم تقدمي في العمر”، هذا ما قالته النجّار في تأكيد منها على مواصلة هذا العمل.
 
وتحاول النجّار أن تدخل نوعا من الحداثة على أفران الطين التي تصنعها من أجل جذب الناس لشرائها.
 
مثلا تصنع في أعلى الفرن بعضا من التصميمات الهندسية لإضفاء بعض الجمال على الموقد.
 
كما تصنع النجّار على سطح الفرن الطيني عينا مفتوحة (ثُقب قطره كبير) بغرض استخدامها لوضع أوعية طهي الطعام عليها، فيتم الاستفادة من هذا الفرن لغرضين صناعة الخبز والطهي في ذات الوقت.
 
إلى جانب ذلك، تصنع النجّار موقدا صغير الحجم، تُطلق عليه اسم “الطبّاخة”، لاستخدامه في تحضير المشروبات الساخنة كالقهوة والشاي.
 
وتضيف:” إعداد المشروبات الساخنة على نار الموقد الطيني أمر ممتع للغاية ولذيذ”.
 
وتصف السيدة النجّار الخبز الذي يتم إعداده على “فرن الطينة”، بخبز “أيام زمان” حيث الفائدة الغذائية والمذاق اللذيذ.
 
خلال عملية التصنيع، تواجه النجّار عدة صعوبات بسبب عدم وجود مكان خاص بها لصناعة أفران الطين.
 
فهي تتخذ من الطريق العام مكانا للعمل، ما يجعلها عرضة لأشعة الشمس أو أمطار الشتاء، أو الرصاص الإسرائيلي بحكم اقتراب هذا المكان من المنطقة الحدودية.
 
وتقول إنها فقدت خلال الحرب الأخيرة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، صيف 2014، مجموعة من أفرانها حيث كانت ضحية الرصاص والقذائف الإسرائيلية.
 
وتبيّن أنها تشعر بالخوف وهي تعمل في ساعات الصباح الباكرة نتيجة وجود الآليات العسكرية الإسرائيلية في مكان مقابل لها.
 
وتذكر أنها بالكاد تستطيع الفرار من المكان الذي تعمل به في حال سماعها لأصوات إطلاق نار.
 
وتقول: “رغم تقدمي في السن إلا أنني لا زالت أتمنى أن أحصل على مكان خاص وآمن للعمل”.
 
وتبيع النجّار في الشهر الواحد موقديْن من الطين أو موقد واحد فقط، فيما تعكف على ترميم المواقد التي تحتاج إلى ذلك أو استبدال التالفة التي تصلها من سكان المنطقة بمواقد جديدة.
 
ويصل ثمن الموقد الواحد كبير الحجم، وفق النجّار، إلى حوالي 20.5 دولار أمريكي، بينما تصل قيمة الربح من بيع الفرن الواحد إلى نحو 6 دولارات فقط.
 
ورغم انخفاض قيمة الربح إلا أن النجّار تجد في هذا العمل المرهق والمؤذي للجسد مصدرا أساسيا للدخل في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية.
 
وتضيف قائلة: “هذا العمل هو مصدر الدخل الأساسي لي ولعائلتي، أحاول أو أوفر منه متطلبات الحياة الأساسية”.
 
وتبيّن أن الحصار الإسرائيلي تسبب في انعدام القدرة الشرائية لدى المواطنين، الأمر الذي حرمهم من شراء مستلزماتهم الأساسية.
 
وتستكمل قائلة:” في ظل هذه الظروف الصعبة، يجب على الإنسان أن يجد العمل اللائق به، لا أن يستسلم للأمر الواقع ويتسوّل لقمة العيش، التقدم في السن وانعدام الفرص، لا يلغي الأمل والإرادة”.
 
وتفرض إسرائيل منذ نحو 13 عاما حصارا مشددا على غزة، ما أدى إلى زيادة كبيرة في نسب الفقر والبطالة في القطاع المكتظ بالسكان.
 
ووفق بيانات حكومية وحقوقية، فإن نسبة البطالة بغزة ارتفعت نهاية عام 2018 إلى 52 بالمئة، فيما تخطت نسبة الفقر الـ80 بالمئة.
 
وتشير إلى أنها تضطر في بعض الأحيان أن تخفّض من سعر الموقد الواحد، مراعاة لظروف الزبائن الاقتصادية.
 
في سياق آخر، تقول النجّار أن استخدام هذا الموقد من شأنه أن يخفف على الناس من الأعباء الاقتصادية التي يتكبّدونها جرّاء استخدام أجهزة الخبز والطبخ التي تعمل على الكهرباء أو الغاز.
 
وتتابع: “من يستخدم هذا الفرن لا يضطر لاستخدام فرن الخبز الكهربائي، فيوفّر من ثمن الكهرباء والكمية المستخدمة منها، وذات الأمر ينطبق على استخدام اسطوانات الغاز في الطهي”.
 
وتستذكر النجّار العقود الماضية، حيث تقول والبسمة ترتسم على وجهها، أن نساء بلدة خزاعة (شرقي مدينة خانيونس) كن في الماضي يخصصن مكانا في الاراضي الفارغة، لطهي الطعام والخبز على مواقد النار هذه.
 
وتقول المسنّة الفلسطينية، إن العمل المشترك هذا كان يزيد من الترابط الاجتماعي بين الناس، عدا عن رائحة الطعام “اللذيذة” التي كانت تنبعث من مكان الطهي، إذ توحي بأصالة تلك النسوة ومهارتهن في إعداد الطعام.(الأناضول)