عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-May-2025

زمن الصفر*رمزي الغزوي

 الدستور

فرق شاسع بين معنى الشفافية المتداول، ومعناها الفيزيائي الدقيق!. ففي الفيزياء، الشفافيةُ لا تعني سوى أن الجسم يمرِّرُ الضوء بكامله، دون أن يعكس منه شيئاً. أما في حياتنا اليومية، فقد يُراد بها دائماً، أن تُكشف دواخلك، وتُرى نواياك وأحلامك كما تُرى تصرفاتك.
 
ومع زمن الشفافية الصارمة، التي تخترق الخصوصية دون استئذان، ستشعر أن خلايا دمك مكشوفة للعيون والمجاهر، أو كأنك تسكن بيتاً زجاجياً يُرصد من كل زاوية. فاحذر الأخ الأكبر، وسلطته المتربّصة؛ إنه أقربُ إليك مما تتخيل، وأقوى مما تتوقّع، وأخبرُ مما تظنٌّ.
 
في أواخر القرن الخامس عشر، استغرق خبر سقوط آخر القلاع العربية في الأندلس عدة أشهر ليصل إلى بلاد الشام. أما خبر وفاة نابليون في القرن التاسع عشر، فاحتاج أسبوعاً ليعمّ فرنسا قبل أن يتجاوز البحار.
 
واليوم، فلا مسافة بين الخبر وذيوعه وشيوعه. نعيش في عصر يمكنني أن أسميه «زمن الصفر»، حيث لم يعد للتضاريس معنى، أو قدرة على الصدِّ والإعاقة، ولا للجغرافيا سلطان أو سطوة. فالخبر يطوي الأرض بسرعة ضوء يدور حول الكوكب سبع مرات في الثانية الواحدة. ولك أن تتخيل.
 
ولطالما سبق الخيالُ العلمَ. وهذا ما دفع آينشتاين للاعتراف بأن الخيال أهمُّ من المعرفة، فهو الشرارة الأولى لكل فكرة، ولكل حلم ونزوة. وما بساط الريح إلا ثمرة خيال مجنون تمخض عنه مطارات وطائرات ومركبات فضائية. ولعل يوماً يأتي فيه الإنسان يتجول فيه بالزمن في حالاته الثالث، الماضي والحاضر والمستقبيل، كما يتجول بين المدن شرقها وغربها. من يدري؟ ربما ليس ذلك إلا على بُعد ومضة خيال.
 
ولهذا، سأل زعيم جلساءه ذات صفاء: من أسعد الناس؟ فجاءت الردود متملقة مخاتلة تدور حول الزعيم، وكأنه محور السعادة الكونية ولبُّها. لكنه «طنش» ردودهم كلها، وهز رأسه مبتسماً متمتماً: «أسعد الناس رجلٌ لا نعرفه، ولا يعرفنا».
 
ولعل إنسان القرن الحادي والعشرين، المثقوب بالأضواء والكاميرات والمرصود بعيون الأخ الأكبر وزمرته، سيتمنى لو لم يعرف ثورة الاتصال الخامسة، التي جعلت منه كائناً مخترقاً، وعلى بُعد نقرة واحدة من أي طالب كان. لن تستطيع أن تختبئ يا صاحبي وتلوذ، لا في عالمك الواقعي، ولا الافتراضي، مهما توارت زواياك ومهما أخفيت نواياك.
 
تلك الصرخة المحفورة على بوابة الأمم المتحدة، المأخوذة من قصيدة للطفلة «ميلان مورو»، تلخص الأمر كله: «لو كانت الأرض مربعة، لوجدنا زاوية للاختباء. لكنها كروية؛ وعلينا مواجهة العالم.»