عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Feb-2021

كيف سحق صدام حسين الانتفاضة الكردية بضغط أميركي على السعودية؟
درج - كامران قره داغي - كاتب كردي عراقي
 
نحج النظام العراقي في سحق الانتفاضة لتبدأ أكبر عملية هجرة للمدنيين الكرد عبر الجبال باتجاه تركيا وايران ليتبعها القرار الاميركي بدعم إقامة الملاذات الآمنة لإعادة الكرد إلى ديارهم...
 
كركوك كانت المدينة الكبيرة الوحيدة التي لم تحدث فيها انتفاضة شعبية وحررتها قوات البيشمركة. قررت القيادة الكردية الهجوم على كركوك من ثلاثة محاور، أربيل شمالاً والسليمانية شرقاً وجنوباً. في كتابه بالكردية “نسور قنديل الحمر”، يشرح عضو المكتب السياسي السابق لـ”الاتحاد الوطني الكردستاني” فريدون عبد القادر الذي كان مسؤولاً عن محور السليمانية وكَرميان التي تشمل كركوك وخانقين وكلار وكفري ودوزخورماتو وغيرها، مما يسميه الكرد بالمناطق الدافئة، أن عمليات تحرير المناطق الكردية كانت تتم بمشاركة قوات البيشمركة التابعة للحزبين الرئيسيين وأحزاب أخرى، لكن تحرير كَرميان قادته قوات “الوطني الكردستاني”، إذ إن مسعود بارزاني المسؤول العسكري في كردستان في اجتماع معه قبل بدء الهجوم، “قال لنا إنكم تمثلوننا أيضاً ونضع الهجوم في أيديكم”. يضيف عبد القادر أن القوات المهاجمة من جنوب كركوك واجهت مقاومة عنيفة في دوز خورماتو، خصوصاً من قبل مقاتلي التنظيم الإيراني المعارض “مجاهدي خلق”، الذي كان يستخدم الدبابات والأسلحة الثقيلة وسقط خلال المعارك الضارية هناك الكثير من عناصر البيشمركة. كان هذا التنظيم الموالي للنظام يقيم قواعد عسكرية في العظيم وقرب جلولاء وقره تبه وسليمان بيك، ومقاتلوه لم يشاركوا في الحرب إلى جانب القوات العراقية وبالتالي ظلت معنوياتهم عالية كما انهم كانوا يدركون ان مصيرهم مرتبط ببقاء النظام البعثي الامر الذي يفسر ضراوة مقاومتهم لقوات البيشمركة. في النهاية حتى بعد تحرير كركوك فإن جنوبها ظل منطقة قتالية ولم تنجح القوات الكردية في الاستيلاء عليها. يروي عبد القادر تفاصيل دقيقة وكثيرة عن العمليات في جبهة كرميان والهجوم على كركوك، ملاحظاً أن قياديين في “الاتحاد الوطني الكردستاني” في مقدمهم نوشيروان مصطفى، توقعوا أن تصبح كركوك عاملاً سلبياً في مسيرة الانتفاضة، مضيفاً أن التطورات لاحقاً أكدت صحة توقعهم. 

 

قوات البيشمركة دخلت من محورين إلى كركوك مساء 20/3/1991 من محوري السليمانية وأربيل وسيطرت على المدينة للمرة الأولى في تاريخ الانتفاضات الكردية، فيما فر منها علي حسن المجيد بطائرة هليكوبتر إلى تكريت تاركاً وراءه في مقار أجهزة النظام وحزب البعث أطناناً من الوثائق التي استولى عليها الكرد وشكلت لاحقاً جزءاً من الوثائق التي نقلت إلى الولايات المتحدة وما زالت مودعة في إحدى جامعاتها وديعة لمالكها الشرعي العراق. وشهد اليوم التالي احتفالات بتحرير المدينة وعيد رأس السنة الكردية نوروز معاً. تحرير كركوك كان نصراً تاريخياً للكرد ووجه ضربة معنوية للنظام البعثي. نوشيروان مصطفى كان أكبر مسؤول في قيادة “الوطني الكردستاني” الذي دخل إلى كركوك. في لقائي الخاص مع نوشيروان مصطفى في لندن، روى لي أنه بعد تحرير كركوك مباشرة تلقت قيادته هناك رسالة من أحد رؤساء العشائر العربية في الحويجة جنوب غربي كركوك، هنأ فيها نيابة عن رؤساء 11 عشيرة عربية سنية رئيسية القيادة الكردية، مقترحاً التعاون والتنسيق بين الطرفين. مصطفى عبر عن اعتقاده بأن موقف هذه العشائر العربية كان نابعاً من مخاوفها من قرب انهيار النظام البعثي الحاكم نهائياً. أطلعني مصطفى على الرسالة التي كان يحتفظ بها في أرشيفه الخاص مشترطاً عدم استنساخها أو ذكر أسماء رؤساء العشائر الموقعين عليها. وجاء في الرسالة أن أجهزة النظام كانت تثير مخاوف السكان العرب بمزاعم مفادها أن القوات الكردية كانت تقوم باغتصاب النساء وتقتل السكان العرب، وتجبرهم على إخلاء قراهم وأملاكهم. لذا اقترح الموقعون أن تقوم القيادة الكردية بتوجيه نداءات عبر إذاعتها لتطمين السكان العرب بأن الثورة الكردية ليست ضد العرب، بل إنها “ضد نظام صدام الذي عانى منه شعبنا عرباً وكرداً مع الأقليات الأخرى”. ووعد موقعو الرسالة بأنه بعد أن توجه القيادة الكردية هذه النداءات، فإن وفداً يمثل رؤساء هذه العشائر سيقوم بزيارة القيادة الكردية.

تحرير كركوك كان نصراً تاريخياً للكرد ووجه ضربة معنوية للنظام البعثي.

تم بث النداءات والتطمينات التي طلبها رؤساء العشائر، فوصل وفد منهم إلى منتجع صلاح الدين للقاء بارزاني ومصطفى. الوفد طلب تعهدات من الكرد بأنهم لن يتعرضوا للسكان العرب ولن يسمحوا لـ”الجعفريين” الاستيلاء على السلطة. وأوضح الطرف الكردي للوفد “أننا علمانيون ونسعى إلى إقامة نظام ديموقراطي لا يميز بين السنة والشيعة وبين المسلمين والمسيحيين وبين العرب والكرد والتركمان”. وأوضح مصطفى أن القيادة الكردية كانت مهتمة جداً بفكرة التنسيق مع رؤساء العشائر العربية التي كانت حدود نفوذها تمتد حتى الفرات، وفي حال العمل المشترك يمكنها أن تحرر هذه المناطق بما فيها تكريت، خصوصاً أن أعضاء الوفد “تعهدوا لنا بأنهم سيحررون مناطقهم من سيطرة بغداد ولن يحتاجوا إلى أي دعم من الكرد بالسلاح والرجال وكل ما يطلبونه هو أن نرسل معهم فريقاً يمثل القيادة للتنسيق معهم”. فوق ذلك قال مصطفى: “تلقينا لاحقاً معلومات من مصادرنا بأن هذه العشائر اتخذت بالفعل إجراءات محددة تمهيداً للتحرك ضد النظام. وزادت ثقتنا بتعهدات رؤساء العشائر العربية أننا تلقينا رسالة ثانية تطلب التنسيق معنا هذه المرة من نحو 20 رئيساً لعشائر في محيط تكريت”. لكن ما حدث بعد ذلك أن القوات العراقية بدأت الهجوم المضاد ضد قوات البيشمركة فأدركت العشائر العربية أن الوضع أصبح مختلفاً وليس في مصلحة الكرد، فقرر رؤساؤها، حفاظاً على مصالح عشائرهم، قطع اتصالاتهم بالكرد، لكنهم حرصوا على إعادة الفريق الكردي المرافق وسلامة وصول أعضائه إلى المناطق الكردية. 

برزان التكريتي يتحرك في جنيف

في الأثناء، حدثت تطورات ذات صلة في أوروبا. اتصل برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين فجأة ليطلب من الكرد لقاءه في جنيف كي يبلغهم رسالة من صدام حسين. كان التكريتي وقتها يشغل منصب ممثل العراق لدى الأمم المتحدة في جنيف. كانت الانتفاضة الكردية بدأت عندما تلقى الصديق الراحل سرجل قزاز، وهو رجل أعمال كردي كان يقيم ويعمل في مانشستر ولندن في بريطانيا، اتصالاً هاتفياً من التكريتي. تلت ذلك تفاصيل رواها لي قزاز في لقاء خاص أجريته معه في 17/6/1993 في أنقرة، حيث كان ممثلاً لـ”الاتحاد الوطني الكردستاني”. قزاز جمعته علاقة شخصية مع جلال طالباني وكان موضع ثقة لديه وكان يكلفه القيام بمهمات خاصة في أوروبا، بينها الاتصال ببرزان التكريتي في الثمانينات فنشأت بينهما علاقة شخصية وبعد إقامة العلاقات بين القيادة الكردية والحكومة التركية اختاره ليمثله في أنقرة. هنا رواية قزاز عن اتصالاته بالتكريتي:

 “في 7/3/1991 كنت في منزلي في مانشستر عندما أبلغتني ابنتي أن شخصاً اسمه برزان التكريتي يطلبني على الهاتف. قلت لها أن تطلب منه ان يتصل مجدداً بعد نصف ساعة، وذلك كي يسنح لي الوقت لربط سماعة الهاتف بجهاز تسجيل. في 1988 التقى قزاز التكريتي أكثر من مرة في جنيف ليبلغه رسالة من طالباني مقترحاً فتح حوار بين الكرد وبغداد على أن توقف السلطات العراقية عمليات التعريب في المناطق الكردية، ويوقف الكرد القتال ضد القوات الحكومية “لكنه رد بغطرسة قائلاً ومن هم هؤلاء الكرد كي تننازل الدولة للتحدث معهم؟ الآن في الغرب والشرق الناس مستعدون لتقبيل يدي الرئيس صدام حسين”.

بعد نحو نصف ساعة، اتصل بي التكريتي مجدداً وذكرني بأغنية عراقية شعبية تخاطب فيها الحبيبة حبيبها الذي هجرها متسائلة هل هو السبب أم أن أهله يمنعونه من لقائها. أجبته بأنني “في آخر مرة التقيتك في 1988 قبل نهاية الحرب العراقية– الإيرانية وبلغتك رسالة من مام جلال اقترح فيها فتح حوار بين الكرد وبغداد على أساس وقف تعريب المناطق الكردية، كان ردك بانك لا تستطيع أن تفعل شيئاً. لكن التكريتي قال إن الأمر مختلف هذه المرة وكل شيء في يدي وأنا وأنت يجب أن نحل المشكلات. هل يمكنك أن تأتي إلى جنيف اليوم أو غداً؟ قلت له إنني سأتصل به لإعطائه الجواب. بعد ذلك هاتفت مام جلال الذي كان وقتها في دمشق لأخبره بما حدث. بعد فترة قصيرة اتصل بي مام جلال وقال إنه اتصل عبر جهاز الراديو مع كاك مسعود (بارزاني) فاتفقنا على أن تذهب إلى جنيف لتسمع ما يقوله برزان، لكنك يجب أن تلتزم التزاماً كاملاً بكل ما يبلغك به، بالتوافق مع أربعة قياديين موجودين في لندن هم فؤاد معصوم ومحمد توفيق عن الاتحاد الوطني الكردستاني وهوشيار زيباري ومحسن دزه يي عن الحزب الديموقراطي الكردستاني. بعدما زودني القياديون الأربعة بتوجيهاتهم وتعليماتهم توجهت إلى جنيف في 8/3 وأقمت في فندق انتركونتينينتال قبالة مقر الممثلية العراقية حيث استقبلني التكريتي. قبل بدء الحديث استدعى برزان موظفاً اسمه ممدوح وأمره بأن يكتب محضراً للجلسة، وأن يدون كل كلمة نقولها من دون أي تحريف لأن هذا الرجل كردي وإذا أهملت ولو كلمة واحدة مما يقوله فإنه لن يوقع على المحضر، بحسب تعبيره. استمر الحديث نحو 6-7 ساعات وتألف المحضر من 40 صفحة.

إقرأوا أيضاً:

 

سألني برزان ماذا يريد الكرد؟ قلت أولاً أن تضم منطقة الحكم الذاتي المناطق الكردية كافة، وثانياً يريدون سلطات أوسع وحقوقاً تشرّع دستورياً. هنا أمر برزان الموظف ممدوح بأن يجلب لنا القهوة وعندما غادر الغرفة قال لي برزان: :أطلب ضمانات دولية وأن تجري المفاوضات برعاية دولية أو أقله برعاية الملك حسين”. وبالفعل أضفت هذه المطالب بعدما عاد ممدوح فسجلها في المحضر. أعتقد أن يرزان أراد بذلك أن يكسب ثقتنا وأن يقوم شخصياً بدور مهم لاستعادة نفوذه الذي أضعفه علي حسن المجيد. بالمناسبة، كان برزان يكره المجيد ومرة كنا وحدنا فشتمه بعبارات بذيئة وروى لي أن طارق عزيز طلب منه بعد انتهاء اجتماعه المشهور في جنيف في 9/1/1991 مع وزير الخاريجة الأميركي جيمس بيكر، أن يرافقه إلى بغداد كي يؤيده عندما ينقل كلام بيكر إلى صدام. وأضاف برزان: “في البداية رفضت لكنني وافقت بعدما ألح علي، لكنني في بغداد لم أستطع لقاء صدام أبداً لأن هذا الـ…. الحقير (المجيد) ما خلّاه يشوفني وبعد كم يوم ضجت ورجعت إلى جنيف”. بعدما أضفت المطلب بالضمانات الدولية ودوّنه ممدوح في المحضر تابعت: نريد أن تكون المفاوضات شفافة لأننا كلما كنا نتفاوض مع صدام كان يكذب علينا. هنا توقف ممدوح عن الكتابة ليسأل برزان هل يكتب صدام أو السيد الرئيس، فأجابه برزان بأن عليه أن يدون كلامي حرفياً. في نهاية حديثنا، سلمني برزان رسالة قال إنها من صدام إلى مام جلال. وبعدما عدت إلى غرفتي في الفندق قرأت الرسالة التي تضمنت انتقادات بعبارات شديدة اللهجة للقيادة الكردية واتهامها بالتواطؤ مع الإيرانيين وخيانة الشعب العراقي، لكنه ختم رسالته بعرضه التفاوض بين الطرفين. في 9/3 عدت إلى لندن وفي اليوم ذاته التقيت بالقياديين الكرد الأربعة لأبلغهم بمضمون لقائي مع برزان، لكنني شعرت بأنهم لم يكونوا متفقين على موقف موحد. بعد ذلك سافرت إلى جنيف للقاء التكريتي مرات عدة في 12 و17 و22 و27/3 وفي كل اللقاءات أبلغني بوضوح الموافقة على مطالبنا بأن تتركز المفاوضات على المناطق المتنازع عليها والضمانات الدولية وحتى الفيدرالية. إلى ذلك أبدى موافقة مبدئية على أن تدار الشؤون الأمنية محلياً، فيما ترابط القوات العراقية على الحدود الدولية.

عندما بدأنا البحث في الإجراءات اللوجستية قال برزان أن بغداد تصر على أن يكون الاجتماع في عمان وأن يرأس الوفد الكردي جلال طالباني ومسعود بارزاني شخصياً، فيما يكون الوفد العراقي ممثلاً بعزة الدوري وطارق عزيز. لكننا رفضنا وابلغته باستحالة مشاركة بارزاني وطالباني في التفاوض في المرحلة الأولى. في النهاية تم الاتفاق على أن يمثل الطرف الكردي فؤاد معصوم ومحمد توفيق وهوشيار زيباري ومحسن دزه يي. فوق ذلك أبلغته بأن القيادة الكردية تطلب أن يفتتح كل اجتماع الملك حسين وأن يحضر الاجتماعات إما شخصياً أو ولي عهده الامير الحسن بن طلال ممثلاً عنه. أخيراً في اجتماعنا في 22/3 طلب برزان أن يقتصر الحديث بيننا على إجراءات السفر إلى عمان. عدت إلى لندن واتفقنا على اجتماع للقياديين الأربعة في شقتي اللندنية. لكن زيباري لم يحضر. وفي الأيام التالية أيضاً تعذر الاتصال بزيباري فلم يستطع القياديون الثلاثة الآخرون اتخاذ قرار في غياب زيباري. أخيراً عدت إلى جنيف في 27/3 وطلبت من التكريتي مزيداً من الوقت، لكنه غضب واتهمنا بالتسويف والسعي إلى كسب الوقت، لاعتقادنا بأن أميركا وبريطانيا ستساعداننا، بحسب تعبيره. في السادسة مساء اليوم ذاته اتصلت للمرة الاخيرة من غرفتي في الفندق بفؤاد معصوم، فأبلغني بتعذر اجتماع الأربعة معاً لذا لا قرار. وفي 28/3 شنت قوات الحرس الجمهوري الهجوم على كركوك.

لماذا تراجعت السعودية عن دعم الانتفاضة؟

ما سلف رواية قزاز للاتصالات مع برزان التكريتي في جنيف. من جهتي تستدعي الموضوعية أن أسمع رأي الطرف الآخر وتفسيره لما حدث فاتصلت وأنا أكتب هذه السطور من لندن بهوشيار زيباري في منتجع صلاح الدين، وقلت له إنني أنوي نشر قصة قزاز وطلبت منه أن يوضح رأيه في روايته للأحداث. زيباري أكد أن غيابه لم يكن عن عمد، بل كان بسبب دعوة عاجلة من السعودية للسفر إلى الرياض للبحث في دعم الانتفاضة. وأوضح أن “السعوديين دعوا وفداً مشتركاً من الحزب الديموقراطي الكردستاني وحركة الوفاق وحزب الدعوة للبحث في خطة تدعم السعودبة بموجبها الانتفاضة في العراق كله، لإطاحة صدام وان مشاركة هذه الجهات تعني تمثيل الشيعة والسنة والكرد”. وتابع أن الوفد “ضم إضافة إليه ومحسن دزه يي، إياد علاوي وصلاح عمر العلي عن حركة الوفاق وابراهيم الجعفري وحيدر العبادي وموفق الربيعي عن حزب الدعوة”. وختم بأن هذا هو السبب الوحيد لغيابه، لكنه لم يستطع أن يكشف الأمر في حينه. لكن السؤال الذي كان يشغل بالي وقتها هو، لماذا تراجعت السعودية عن دعم الانتفاضة؟ في إطار الدراسة التي كان يفترض إنجازها عام 1993 مع الباحثة ميلروي في معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، ولم تكتمل كنا أجرينا لقاء خاصاً مع زيباري في منتجع صلاح الدين حول موقف السعودية في ضوء زيارته الرياض في آذار/ مارس 1991. زيباري أوضح أنه التقى مسؤولين سعوديين في مقدمهم الأمير تركي الفيصل وأنه، اي زيباري، شدد لهم على أن الكرد لا يسعون إلى الانفصال عن العراق. وبحسب زيباري فإن السعوديين كانوا “متحمسين” لدعم الانتفاضة وقبول طلبات الطرف الكردي. لكن مع حلول نهاية الشهر وبعدما ظل منتظراً بضعة أيام للاجتماع مع المسؤولين السعوديين مجدداً للبحث عملياً في طلبات الطرف الكردي، أبلغه مضيفوه بأن بطاقة السفر لعودته إلى لندن جاهزة ففهم أنهم غيروا موقفهم فعاد إلى لندن خالي الوفاض.

لكن ماذا حدث خلال وجود زيباري في الرياض كي تتراجع السعودية فجأة عن دعمها الانتفاضة؟ لمزيد من التوضيح أعود إلى قصة قزاز لكونها ذات صلة. ففي ختام روايته عن الاتصالات مع برزان التكريتي في جنيف، أخبرني بانه كان في شقته اللندنية مساء 28/ 3 أي بعد يوم واحد من بدء الهجوم العراقي المضاد على كركوك ومناطق أخرى في كردستان، عندما زاره فجأة من دون موعد مسبق الصحافيان الأميركيان جون كولي وتشارلز غلاس وكانا يعملان وقتها في محطة تلفزيون “آي بي سي”. غلاس قال لقزاز إنه كان في كردستان حيث التقى بارزاني وشخصيات أخرى. وأضاف أنه وكولي علما باتصالات قزاز مع التكريتي في جنيف، وأوضحا أن معلوماتهما تفيد بأن مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي وقتها برينت سكوكروفت زار السعودية ودولاً أخرى في المنطقة ويعتقدان، أنه ربما زار جنيف أيضاً، لكن وزارة الخارجية الأميركية رفضت أن ترد على استفسارهما في هذا الخصوص أو ما إذا كانت واشنطن شجعت الكرد على التفاوض مع بغداد. لذا طلب غلاس من قزاز أن يكشف ما حدث أمام عدسة التلفزيون، مضيفاً أن فريقاً للتصوير موجود أمام العمارة لإجراء المقابلة معه فوراً. قزاز اتصل بمحمد توفيق وفؤاد معصوم ومحسن دزه يي فأجمعوا على رفض الطلب وشددوا على ضرورة التزام الصمت والامتناع عن الحديث في الموضوع. 

“السعوديين دعوا وفداً مشتركاً من الحزب الديموقراطي الكردستاني وحركة الوفاق وحزب الدعوة للبحث في خطة تدعم السعودبة بموجبها الانتفاضة في العراق كله، لإطاحة صدام وان مشاركة هذه الجهات تعني تمثيل الشيعة والسنة والكرد”

لتسليط مزيد من الضوء على هذه التطورات أضيف أن مستشار الأمن القومي الأميركي برنت سكوكروفت زار الرياض فعلاً في 27/3/1991 وكان يرافقه مستشار شؤون الشرق الأوسط في مجلس الامن القومي وقتها ريتشارد هاس. وكان ذلك بعد يوم واحد من القرار الأميركي سيئ الصيت بالسماح للنظام العراقي باستخدام طائرات الهليكوبتر الحربية، التي استخدمتها القوات العراقية فورا لشن الهجوم على الانتفاضة الكردية اعتباراً من 28/3. الرأي السائد بين شخصيات عراقية معارضة وأوساط مطلعة في واشنطن هو أن الإداراة الإميركية تبنت الرأي القائل إن انقلاباً عسكرياً أو من داخل النظام يمكن أن يحدث، وذلك أفضل من استمرار انتفاضة قد تؤدي إلى الفوضى وتفكيك العراق. وفي الإطار، فإن سكوكروفت وهاس ضغطا على السعوديين لتغيير موقف الرياض والتراجع عن دعم الانتفاضة. وكنت تابعت هذا الموضوع لاحقاً عندما رتب لي معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى لقاء مع ريتشارد هاس في أواخر حزيران/ يونيو 1993 وكان آنذاك باحثاً رئيساً في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” في العاصمة الاميركية. زرته في مكتبه وبعد تبادل الحديث عن أوضاع العراق تطرقت إلى زيارته وسكوكروفت إلى الرياض في 72/3 وأكد لي أن السعوديين كانوا في البداية عازمين على دعم الانتفاضة، لكنهم تراجعوا عن ذلك إثر زيارته وسكوكروفت الرياض. وسألته مباشرة هل غيروا رأيهم عن قناعة أم لأن هاس وسكوكروفت ضغطا عليهم لتغيير موقفهم؟ فوجئت برد فعل غريب من هاس. رأيت وجهه يزداد احمراراً، ثم نهض من مكانه مرتبكاً، وقال بحدة إنه ليس مستعداً للإجابة على هذا السؤال وأي سؤال آخر، لذا فإنه لا يريد استمرار اللقاء. من جهتي، نهضت ولملمت أوراقي وودعته وغادرت مكتبه، متوجهاً نحو المصعد لكنه لحقني قبل أن يصل المصعد واعتذر عن رد فعله السلبي ودعاني إلى العودة إلى مكتبه مجدداً، فوافقت. عاودنا الحديث فقال إنه لا يستطيع أن يجيب على أسئلة تكشف أموراً، لا يستطيع أن يكشفها، فواصلنا الحديث في قضايا أخرى. أكملت اللقاء وخرجت من مكتبه بقناعة تامة بأن رد فعله العنيف على سؤالي كان دليلاً مقنعاً كافياً لي على أنه وسكوكروفت مارسا بالفعل ضغطاً على الرياض لتغيير موقفها من الانتفاضة في العراق.

هكذا نحج النظام العراقي في سحق الانتفاضة لتبدأ أكبر عملية هجرة للمدنيين الكرد عبر الجبال باتجاه تركيا وايران ليتبعها القرار الاميركي بدعم إقامة الملاذات الآمنة لإعادة الكرد إلى ديارهم ومن ثم بدء المفاوضات بين القيادة الكردية وبغداد وموقف الأميركيين والروس منها. وفي هذا الإطار، يأتي اتصالي بطلب من جلال طالباني بالسياسي السوفياتي يفغيني بريماكوف الذي كان توسط في مفاوضات 1970 لتحقيق الحكم الذاتي للكرد في العراق.