"جدلية الخضر".. دراسات تحليلية بدلالات تراثية وأدبية
الغد-عزيزة علي
في إطار سلسلة "فكر ومعرفة" التي تصدرها وزارة الثقافة، صدر كتاب بعنوان "جدلية الخضر عليه السلام في رواية (حنتش بنتش) لمحمود عيسى موسى"، وهو من تأليف أستاذ الأدب والشعر الحديث في جامعة نجران، الدكتور إسماعيل محمود محمد إحطوب.
في الكتاب يسلط المؤلف الضوء على رواية "حنتش بنتش"، ودور التراث في الرواية، وتأصيل المفردات المتعلقة بالتراث والأسطورة والحكاية الشعبية، إضافة إلى أهمية التراث وبواعثه. كما يناقش تطور الرواية في فلسطين والأردن، ويقوم بدراسة وتحليل جدلية الخضر عليه السلام، من خلال تفكيك بنية حكاية "حنتش بنتش". ويتعرض الكتاب أيضًا إلى العلاقة بين "حنتش بنتش" واللمة الصوفية والسوريالية، وكذلك الخضر في الأدب وفي أصل الحكاية، وصولا إلى التاريخ الأسطوري. وفي النهاية، يعرض الكتاب تأويلا عميقا لبنية الرواية.
كتب التقديم للكتاب أستاذ النقد الأدبي في جامعة اليرموك، الدكتور قاسم المومني، الذي يرى أن إحطوب في كتابه يتناول عملا روائيا لروائي ذائع الصيت، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على المستوى العربي أيضًا. أما الروائي، فهو الكاتب الأردني محمود عيسى موسى، الذي أنتج العديد من الروايات، وكان أولها قد صدر العام 1995م. إضافة إلى ذلك، له أعمال مهمة في الأدب والمسرح والفن التشكيلي والسيرة، ولكن تبقى الرواية هي الأهم في مجمل نتاجه الأدبي. أما رواية "حنتش بنتش"، التي خصص المؤلف دراسته لإحدى شخصياتها، وهو الخضر عليه السلام، فهي تمثل أول عمل روائي له، وقد تلقاها الباحثون بالدراسة والتحليل، سواء من خلال مقالات أو كتب أو غير ذلك، وكان من بين هؤلاء الباحثين إسماعيل إحطوب.
ويضيف المومني أن المؤلف قد استجمع قبل الشروع في التأليف أدوات البحث والكتابة من: وضوح الرؤية، تحديد المفاهيم، اختيار المنهج المناسب، ناهيك عن إتقان القراءة، أي إتقانه قراءة الرواية موضع الدراسة، وهذا هو الأهم. وقد أبدى رأيه الخاص في كثير مما قرأه فيها ولأجلها، وكثيرًا ما كان يعزز رأيه بنصوص من "حنتش بنتش" نفسها، أو من الدراسات التي تناولت فن الرواية وقراءتها بشكل عام. وبذلك، فقد تلاقت دراسته مع كل نقص أو تقصير يمكن أن يطرأ على هذا النوع من الدراسات.
يرى المومني أن المؤلف اختار في البداية الحديث عن "الخضر عليه السلام" في الرواية، بوصفه شخصية جدلية عنوانا لكتابه. وكان لهذا الاختيار عنده أسبابه، في مقدمتها أن أحدا من دارسي الرواية لم يتناول تلك الشخصية بدراسة مستقلة ومستفيضة. فكل ما قدم عن الخضر لا يتجاوز الإشارة السريعة، والإضاءة الومضة، واللمحة العابرة. والواقع أن الخضر هو المفتاح الذي يلج به مؤلف هذا الكتاب إلى عوالم رواية "حنتش بنتش"، لأن الخضر، بحمولاته الدلالية، يتسرب فيها من ألفها إلى يائها. ولعل توظيف الروائي محمود عيسى موسى لهذه الشخصية، بجانب توظيفه المكونات الروائية الأخرى، هو الذي ارتقى بها إلى مصاف الروايات العالمية أو جعلها قريبة منها، كما يقول المؤلف.
ويشير المومني إلى أن فلسطين تمثل ما تعرض له أهلها من تهجير وتشريد، وما يعرض لهم في الشتات نقطة الارتكاز في رواية "حنتش بنتش"، كما في مئات الروايات العربية، بما فيها الفلسطينية. لكن ما يمنح الرواية فرادتها، ويميزها عن غيرها، هو جمال السرد، وحيوية المشهد، وجودة البناء، وغير ذلك مما أفاض المؤلف في الحديث عنه. إذ جاءت الرواية انعكاسًا غير مباشر لشخصية الروائي نفسه، حيث تتمازج فيه عقلانية الصيدلاني، وتجارب مخبره، مع خيال الروائي، وسعة أفقه، وامتداد فضائه.
يتابع المومني حديثه عن كيفية "تغلغل الخضر" في مقاطع الرواية ومفاصلها، إن لم يكن صراحة فضمنا، مما يعني أن الكشف عن شخصيته يسهم بشكل أفضل في استكشاف بنيتها، ويسهم بشكل أكبر في فهم الأرضية الفكرية أو الفلسفية التي قامت عليها. وعلى هذا الأساس، حيث يتتبع صاحب الكتاب هذه الشخصية في التراث، والأسطورة، والحكاية الشعبية. ويسعى إلى تفكيكها في مختلف المعتقدات.
وقد تناول اسمه ولقبه وكنيته، وفي انتقاله من مكان إلى آخر، وفيما نطق به من قول، وقام به من فعل أو عمل. وعلى الرغم من اختلاف الثقافات الحاضنة لهذه المضامين، وما يترتب على ذلك من تنوع الآداب، بما فيها الرواية بالطبع، التي تجسد تلك الثقافات، إلا أن صورة الخضر في هذه الآداب تكاد تكون، باستثناءات قليلة، متماثلة وواحدة، وهي صورة يتمازج فيها الديني بالتاريخي، ويتداخل فيها الأسطوري بالشعبي.
ويرى المومني أن الخضر يبدو من خلال ذلك كله في هيئة الرجل الصالح، الساعي إلى الخير والداعي إلى العدل، النصير للضعيف، الظهير للمظلوم، والصبور عند الشدة. باختصار، هي هيئة أقرب ما تكون إلى هيئة الولي التقي، المحب لله وفي الله، المخلص في طاعته، الملتزم بأوامره، والمجتنب لنواهيه، الذي ييسره الله لمن يشاء من عباده، فيهدينهم إلى سواء السبيل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
ويضيف المومني أنه في هذه الأضواء يمكن فهم استدعاء الروائي للخضر في "حنتش بنتش"، ونفهم سر استحضاره لهذه الشخصية. إنه الاستدعاء الذي يفرضه منطق الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، والعدل والظلم، والصدق والمخاتلة. وبالجملة، هو الصراع بين الفلسطيني صاحب الأرض والصهيوني المحتل، أو هو الصراع بين صاحب الحق ومغتصبه. وقد يطول أمد الصراع أو يقصر، وقد تتعدد أشكاله وأنماطه، فتكثر أو تقل. المهم أن الإيمان بالحق، والتضحية في سبيله، والصبر في الدفاع عنه، تؤدي لا محالة إلى النصر.
ويعتقد المومني أن هذه اللغة قد لا تكون لغة الروائي نفسه، ولا لغة مؤلف الكتاب، ولكنها تعبر عن مضمون حديثهما وما يذهبان إليه. ويؤمن كلاهما أن ما يتواتر من أخبار الخضر وسيرته يعزز ذلك ويقويه. وإذا ربطت آخر الحديث بما جاء في بدايته، قلت: لقد جاء الكتاب متماسك البنيان، مترابط الأجزاء، واضح المقصد والغاية.
وخلص المومني، إلى أنه لم يكن اختيار صاحب الكتاب للكلمة الدالة، ولا الجملة الواقعة في مكانها، ولا العبارة الموضحة، ولا الأسلوب الرصين، إلا دليلا على عنايته بالعمل. فقد جاء الكتاب بما بذله المؤلف من جهد وبمستوى الرواية، فحقق ما أراده؛ إذ أسهم في الارتقاء بالروائي إلى مستوى الروائيين الكبار، وبالرواية إلى مصاف الروايات العالمية.
من جانبه، يقول د. إحطوب في مقدمته للكتاب: "إن الخضر - عليه السلام"، أو الرجل الصالح هو شخصية جليلة الأثر، ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي أسفار التوراة. وهي شخصية ذات دلالات مهمة، ولها وزن كبير في الفكر المشرقي، وقد تركت تأثيرات في الآداب العالمية. وهي في أساسها ذات منشأ قديم وأصول مرتبطة بالفكر العربي الأسطوري في الحضارة الزراعية الأولى التي نشأت في منطقة الهلال الخصيب. وقد طرأت عليها تحولات أدت إلى تشعب دلالاتها، مما أدى إلى اختلاف الباحثين في الوقوف عند اتجاه محدد لها، وذلك بسبب تعدد روافدها الفكرية والدينية والشعبية".
ويضيف المؤلف أن هذه الدراسة تناولت جدلية الخضر -عليه السلام- في رواية "حنتش بنتش"، نظراً لدوره الفاعل في سير أحداث الرواية الدرامية وفي البنية التركيبية والفلسفية لها، خاصة بعض المشاهد ذات الصبغة السوريالية أو الخيالية الأسطورية. وهذا ينعكس على ترسيخ رؤية الكاتب محمود عيسى موسى للمستقبل الفلسطيني، وكيفية الحفاظ على تراثه عبر تأصيل الجذور الفلسطينية والقومية والمشرقية في ذاكرة الزمن الذي ستعيشه الأجيال اللاحقة.
ويرى إحطوب أن نزعة الحنين إلى التراث في حقبة تسعينيات القرن الماضي قد شكلت ظاهرة مهمة في الأدب الفلسطيني، نظرًا للخصوصية التي تميزت بها تلك المرحلة في تحولات الصراع العربي الإسرائيلي بعد معاهدة أوسلو، وشعور الأدباء بضرورة تحصين المكان الفلسطيني ضد السرقة والتهويد.
وخلص المؤلف إلى أن هذه الدراسة تأتي ضمن منهجية بنيوية تفكيكية لدراسة شخصية الخضر - عليه السلام - واكتشاف دلالاتها الدينية والتراثية والأدبية والأسطورية، وذلك بهدف التعرف على دورها في صناعة الأحداث الجزئية والكلية في الرواية، وكذلك الوصول إلى مقصد الكاتب من توظيفها وطريقة توظيفها، وعلاقتها بالروح العامة التي تسكن الرواية.