عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Apr-2019

”وإن تطع أکثر من في الأرض یضلوك عن سبیل الله“ - د. محمد المجالي
 
الغد- ھي سورة الأنعام التي تؤسس وتؤكد موضوع الإیمان من خلال عرض آیات الله المبثوثة في  السماوات والأرض والنفس، فھو سبحانھ الخالق وحده، ویترتب على ذلك أن ی ْعَب ُ د وحده، ولا ی َشرك بھ شيء، وبھذا تتكامل في نفس الإنسان جوانب الطمأنینة الباعثة على الإیجابیة في الحیاة، فھو المخلوق المنضبط لما یریده سیده، لا یشتت نفسھ فتضل بوصلتھ، فربھ أرشده إلى الصراط المستقیم عدت في الدنیا لیفلح ویبني، وفي الآخرة لیكون من الفائزین بجنة عرضھا السماوات والأرض للمتقین.
لیس عجیبا أن تكون السورة، ومثلھا كثیر من سور القرآن خاصة المكي منھا، أن تبني الإیمان با، وتبني التصورات الصحیحة للحیاة والمآل والكون والنفس، وتقرر القضایا الغیبیة، فكثیرة ھي الأشیاء التي تحتاج توضیحا وإقناعا، ولا بد فیھا من المصادر الموثوقة المقنعة لذوي العقول السلیمة، وإلا كان المصیر ضلالا أو ردة وإلحادا، وھو الأمر الذي ینتشر إن غاب أھل الحق عن میدانھم الدعوي، أو شك الناس في أھلیتھم والتزامھم ومصداقیتھم.
والآیة موضوع المقالة تركز على مسألة الطاعة التي ینبغي أن تكون لمن یستحقھا، فالطاعة المطلقة  ورسولھ المبلِّغ عنھ سبحانھ، وما سواھما طاعتھ مقیدة بطاعتھما، وفي الآیة توجیھ إلى الاطمئنان لما یأتي من جھتھ سبحانھ، فلا یأمر إلا بما ھو حق، ولا یھدي إلا إلى الحق والاستقامة، لسبب رئیس أنھ الخالق العالم بما یصلح لمخلوقاتھ، فھو الخبیر العلیم الحكیم سبحانھ، ولا یجوز للمؤمن الحق إذا قضى الله ورسولھ أمرا أن یكون لھ الاختیار بعد ذلك، فدوره ھو الطاعة والالتزام، ولھ أن یتدبر ویفھم ویردف مع التسلیم فھما ینیر لھ الطریق، ولكنھ لا یسمح لنفسھ أن یتجاوز حد العبودیة ، فتضل بھ نفسھ ویتبع غیر شرع الله، أو یفھمھ كما یرید ھو بعیدا عن ضوابط الفھم، أو ینساق وراء أفھام غیره من أھل الأھواء.
ّ ھذا الدین متین محكم، فص ّ ل الله تعالى فیھ أشیاء وترك أشیاء، والتي تركھا أص ّ لھا وحصنھا، ُ فالأحكام في القرآن بین تفصیل وتأصیل، وما لم ی َّ فصل فھو دور النبي صلى الله علیھ وسلم أن ّ یفصلھ كونھ أمرا تطبیقیا، وكل ذلك بأمر الله تعالى، إذ الوحي وحیان: قرآن وسنة، فما ینطق صلى الله علیھ وسلم عن ھواه، بل أوتي القرآن ومثلھ معھ. وحتى ما لم یفصلھ النبي صلى الله علیھ وسلم، فھو عن قصد، إذ ھو من الأمور المرنة القابلة للتكیف مع أحوال الناس في كل زمان ومكان، فالمھم ُ جوھرھا وتحقیق مقاصدھا، وی َترك لعلماء كل عصر الاجتھاد في تحقیق المصالح للناس بشأنھا.
ومن ھنا جاءت ھذه الآیة في سیاق الحوار مع المشركین، فھم لا یؤمنون، ویتھربون من أیة مسؤولیة تربطھم با تعالى، یریدون اتباع أھوائھم وشھواتھم، فالالتزام بالنسبة إلیھم تقیید، وما علموا أنھم مقیدون بل عبید لأھوائھم وآلھتھم التي یعبدون من دون الله، علموا ذلك أم لم یعلموا، فالإنسان عابد على كل حال، فلتكن عبودیتھ لمن یستحقھا، وصدق الله: ”أفمن یخلق كمن لا یخلق أفلا تذكرون“، فالمسألة لا تحتاج كثیر عقل لیدركھا الإنسان، بل مجرد تذكر لیس إلا، فلینظر في ُ نفسھ وفي الكون حولھ، أیعقل أن تكون العبادة، ومن ثم الطاعة، لغیر مستحقھا، وھو الله وحده؟!
لقد استكبر المشركون عن دعوة الحق، وبین سبحانھ في سیاق الآیة أنھم اعترضوا على كون الرسول بشرا، وبین سبحانھ أنھ لو أنزل إلیھم الملائكة، وكلمھم الموتى، وجاء بكل آیة أمامھم لما آمنوا، ففي نفوسھم كبر، الأمر الذي أعان الشیطان على أن یتحكم في عقولھم وقلوبھم، سواء كان ھذا الشیطان من الجن أو الإنس، یوحي بعضھم إلى بعض زخرف القول غرورا، ھدفھم أن إلیھم أفئدة الناس فیتبعوھم. وھنا یرشدنا الله تعالى إلى أن لا نبتغي غیره حكما وإلھا، فھو الذي أنزل الكتاب مفصلا، والذین أوتوا الكتاب یعلمون ھذه الحقیقة بالذات، ولعل التصریح باسمھم ھنا كون شيء من التضلیل یكون عن طریقھم، مع أنھم في قرارة أنفسھم یعلمون أن ھذا الكتاب حق.
في ھذه اللحظة یخبرنا الله تعالى أن نطمئن لمنھجھ، فقد تمت كلمتھ سبحانھ صدقا وعدلا، ویا لھما ُ من وصفین متینین مریحین للنفس العاقلة، حیث الصدق والعدل، ولا م ّبدل لكلماتھ سبحانھ، فھو َ السمیع العلیم، ولا نشتت أنفسنا في البحث عن بدیل لما ھو صدق وعدل، فلو أطعنا أكثر م ْن في الأرض فالنتیجة ھي الضلال، لأن أمرھم مبني على الظن والكذب: ”وإن تطع أكثر من في الأرضْ یضلوك عن سبیل الله، إن یتبعون إلا الظن وإن ھم إلا یخرصون“، أي لا یتبعون إلا الظن لا الحقیقة والصدق والعدل، وما ھم إلا یكذبون، فالخرص ھنا الكذب، حیث القول بالظن والتخمین، وشتان بین حق دامغ واضح، وبین تخریص لا یقود إلا إلى ضلال وحیرة.
ھذا زمان تكثر فیھ الشھوات والشبھات، وأحدنا بحاجة إلى یقین بربھ تعالى، وإلى نور یضيء لھ عتمة الطریق، وإلى فرقان یعتصم بھ عن الزلل، فھذا الكتاب المحفوظ المعجز ھو آكد ما یبعث على الثقة بالمنھج، ھو كلام الله، فما علینا إلا التعرف علیھ وتدبره والعمل بھ، فلا بد من لجم النفس عن اتباع الأھواء، وردھا إلى ما بھ سعادتھا في الدنیا والآخرة.