عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Jan-2023

سلامة يكتب: في وداع عبد السلام المجالي

 عمون -

 
أحمد سلامة
 
- عظم الله أجركم يا أبوي.
 
- تسلم روحِك، جزاك الله خير يابا.
 
- وايد ممتنة إنك عرفتني عليه لما جاء البحرين، شخصية عظيمة. أتذكر نظرة الأبوة في عينه لما قريت له قصيدة "هذب يراعك وانصر دولة القلم".
 
هذه أول رسالة تعزية تلقيتها برحيل دولة الدكتور عبدالسلام المجالي من زميلة بحرينية، هي نورين الذوادي، وقد عملنا معا ضمن الفريق الإعلامي في ديوان سمو ولي عهد البحرين في سنوات الصعب إبان الربيع العربي. وقدَّمتها ذات زيارة للراحل الفذ، الذي بلغ به عمر العطاء وعمر الدولة سواء بسواء، سيدي وأستاذي الراحل الكبير عبد السلام المجالي.
 
ونورين مثل ابنتي أو أختي الصغيرة، دوما تناديني "يا بوي"، وقصتها في كيف اِنقض على فرصة تقدمها، وهي التي قدمت وما تأخرت عن بلدها، أحدهم نال فرصته بالصدفة فأخرجها من دائرة الفعل وهي ذكية. تلك قصة أخرى سأعود إليها ربما ذات وقت لاحق، لكن التقاطها للحظة الأبوة في الأب المتسامح (عبد السلام) جعلني استهل مرثيتي فيه بتعزيتها لي، لأن عتبة قلب (عبد السلام) كانت دوما الأبوة.
 
لا يذرف الدمع على فراقك أيها الأب السيد الوطني الحنون لأنك خالد فينا؛ خالد خلود كل البناة الثقاة والرجال الرجال. إن إيابك للياروت هو علامة الحزن الأولى على فراقك، فكم نحن بحاجة في هذه اللحظات المغرقة في الصعب إلى حكماء الدهر وأيقوناته وإلى كل بناة الوطن والارتقاء في الرسالة من مثلك ومثل غيرك، لأن العبء ثقيل في رحيلك وتركنا (لزمرة الصبية، الذين أخذوا أوسع الفرص لكنهم ما وضعوا طوبة على طوبة للوطن، وظلوا في رغاء يسلمهم إلى رغاء آخر).
 
هذا باب حزن الوداع في غيبتك الحنونة حين اِخترتَ التلفح بكفن، لكن هذا الكفن ما وارى رجلا يا أبا سامر، بل كان صورة لأول بياض قلبك الطاهر.
 
من أين أبدأ!؟ وكل حياتي على هيئة القدر ارتبطت بحنِيّتك!
 
في كل لحظات العمر كنت أنت يا أيها الطيب نِعمَ من وجّه وخيْرَ من أسند الضعف في لحظاته الراهنات. وكنت يا (عبد السلام) أول كل طيب في حياتي، منذ أن دلفتُ إلى جامعة الوطن الأردنية عام ١٩٧٢ طالباً، وأنت سيدها وموجهها الأول وحتى اليوم الأول من رأس هذه السنة حين كنت بين يدي رفيق حبك الباشا يوسف القسوس، لعارض في عيني الذي ألزمني لاحقا الفراش.
 
حين سألت الباشا يوسف، كما كان يحلو للحسين مناداته، "متى آخر مرة سمعت من الكبير؟!" ولم أذكر اسم (عبد السلام) لأنه الكبير فينا اسما وصورة ورمزا. قال لي يوسف باشا: "لحظة، خليني أطمنك مباشرة". وطلب سوسن كريمة الكبير ورفيقته. كان الباشا نائما، يهيء نفسه للرحيل الأبدي بهدوء طبع وبسكينة المومنين التي لازمته على مدار قرابة المئة عام. أخبرتْهُ أنه نائم، وأنها تود الاستفسار عن نوع دواء جديد، وكنتُ بالحدس وبالتواصل بينهما أدرك أن اللحظة قاربت على الاجتياح.
 
في هذي المرثية، سأقول في (عبد السلام) نصائح من سيرته، أسترد تكرارها علَّ من يريد أن يسهم في بناء الوطن التمعن بها.
 
عبد السلام المجالي، وهو رئيس للجامعة الأردنية في عصرها الذهبي، كان نائبه للشؤون العلمية (عبد الوهاب البرلسي، مصري وزير صحة جمال عبد الناصر)، ونائبه الإداري (رشيد الدقر، شامي وزير مالية سابق)، ونائبه الأكاديمي (محمود السمرة، ابن الطنطورة المبدع)، ورئيس قسم الاجتماع كان من مصر، وعبد العزيز الدوري مؤرخ عرب المشرق صوته هو المسموع، وعدنان البخيت، وفهمي جدعان، ومحمد الحلاج، ومنذر عنبتاوي، وعدنان بدران وكامل أبو جابر كلهم كانوا حوزة عبد السلام المجالي.
 
هل كان عبد السلام المجالي يكره الأردن حين فتح الباب للتنوع القومي والوطني والطائفي على أسس الكفاءة والجدارة!؟ أبدا. وإن نظرة واحدة على حال الجامعة الآن تجعلك تدرك من هو (عبد السلام) المدير الذي صنع من إدارة الدولة حكمة.
 
سنة ١٩٨٩ كانت سنة التغييرات المجنونة المدهشة في عالمنا الأردني. ومسّت تلك الموجة الأولى أو (البروفة الأولى) للربيع العربي كل شيء. والثمن كان لأن الحسين رحمه الله صنع (معجزة مجلس التعاون العربي)، وكان المطلوب إرجاع الأردن والحسين معا إلى مربع (الواحدية القطرية). ونبتَ فينا أيامها من ناصر التضييق على الوطن وعلى الحسين، إما تغابيا وإما طوعا لأمر. حينها كان (عبد السلام) رئيسا للمؤسسة الطبية العلاجية، وتم التآمر من حكومة (النيسانيين) على (عبد السلام) وعلى المؤسسة، ومرر الحسين – كعادة الهاشميين في التمرير للمسؤول حتى لو أساء التقدير – لأنهم يظنون فينا الظن الحسن.
 
يومها كانت الصحافة في أزمة هوية بين من استملكها من جديد (الحكومة ما قبل نيسان) ومن استرد إدارتها من عوائد نيسان المجيدة. كنت يومها في قلب ذلك الوجع المهني الدامي والتزمت البيت واخترت السفر للدراسة خارجا من أسوار المرحلة. لكن كان هناك على مستوى رفيع في التفكير رأي آخر بأن علي واجب الرجوع لصحيفة الرأي والكتابة فيها. وكان الأمر لا لبس فيه (حيث أمر الحسين رحمه الله أن يقرأ لـ "أحمد سلامة" في الرأي غدا).
 
كان ذلك يوم مهني مجيد، تلاقيت مع المرحوم أستاذي وصديق رحلة المهنة المحترم محمود الكايد رحمه الله في مكتبه بصورة إلحاح منه لم أستطع مقاومته. تقابلنا على مضض، كنّا على طرفي المعادلة نتبادل العتب الصامت وطلب إليّ الرجوع الآن للصحيفة "فلا يجوز أن تظل بعيدا". واسترد بعض صفاء من علاقتنا، وأمليت عليه رجاواتي حتى يقبل بها وأعود (فقد كنت على علم بما تلقاه ذلك اليوم من أمرٍ بإعادتي) وقلت: زاوية "سبع أيام" يوم السبت كانت لي ولا بد أن تعود (كان يشغلها زميل من اليسار منذ لحظة التغيير). صفن أبو العزم، وحاول: خذ أي يوم بس السبت أصبحت لــ(فلان). قلت له: أنا في البيت، ولن أتنازل عن حقي المهني. وأخذ قراره: على بركة الله، كما تحب. وأضاف: هلأ فوت أكتب لك موضوع حتى نُعلم القراء أنك عدتَ إلى صحيفتك! قلت له: أنا سأكتب السبت. فأجاب: أي موضوع أكتبه، ولازم يُنشر اليوم.
 
الحق، أنني تنبهت لعاصفة الإقصاء لعبد السلام المجالي في ذلك الأسبوع، وأحببت أن أرد له بعض بعض جمايله علينا. كان ردّي من دون أي عناد: إن كنت تريدني أن أكتب، سأكتب ضد رئيس الحكومة؟ ورئيس الحكومة كان هو من أرجع الحق لأصحابه! من وجهة نظر (أبو عزمي)، قال أبو العزم: أكتب أي شيء، ما عندي مشكلة. جلستُ في مكتب سكرتيرة (أبو عزمي) وكتبت مقال قطعة صحفية بعنوان رئيسي "المجالي يكفن بصمته المؤسسة الطبية العلاجية"، وعنوان ثانٍ "رجل الدولة الذي لم يحرد على وطنه ودولته طوال حياته".
 
وكان المقال موقعا باسم (محرر الشؤون المحلية)، وبعد أن قرأها أبو العزم رحمه الله شطب محرر الشوون المحلية وبقلمه الأخضر كتب: (أحمد سلامة)، ونشرت في اليوم التالي وكانت خروجا عن مألوف الرأي في موقفها وكان تسبيب أبو عزمي: "نحن صحيفة تعدد الآراء". حدث ذلك عام ١٩٩٠.
 
وفي عام ٢٠١٤، تخيل الفرق في الزمن، وصل دولة الرئيس المجالي بزيارة لمملكة البحرين. وكان ولي عهد مملكة البحرين يحرص على مجالسة أبو سامر أطول وقت ممكن للاستفادة من خبرته وحكمته. يومها كنت في معية الإثنين بالجلسة وكان قبلنا معالي الشيخ خليفة بن دعيج رئيس الديوان المحترم وسامر عبد السلام المجالي الرئيس التنفيذي لطيران الخليج آنذاك.
 
سأل سمو ولي العهد دولة الدكتور عبد السلام سؤالا، استخلص منه الرئيس أنه عاتب على بعض إجراءات تحدث أحيانا على حين دهشة. باشر الدكتور نصيحته لولي العهد قائلا: هذا الفصيح، أحمد سلامة الذي يعمل معكم اليوم، كتب عنّي وصفا صحفيا ذات يوم بعيد، فقال (الرجل الذي لا يحرد أبداً، وهو أجمل وصف تلقيته بحياتي)، وأكمل عرضه للنصيحة.
 
اليوم، أقول عن عبد السلام المجالي: كان وطناً في رجل، وكان بسيطا كأول قلاية أكلها في السلط وظل يستذكرها بمحبة. وعبد السلام بحياته لم يحرد على الوطن رغم أن بعض زمر في الوطن ضغطت عليه بألف مبرر للحرد. كان هاشمي الولاء بصدق الأتقياء، ولم تشب أية شائبة مصلحية مواقفه المبدئية. كان فلسطينيا جسورا لأن حصته في فلسطين قد بدأت حين كان طبيبا مقاتلا عام ١٩٤٨.
 
عبد السلام كان راعيا للعلم وطالبا له، وكان جسورا في حماية العلماء. كان سري ناصر في إلحاحه على أسس التقدم لا يحتمله أي رئيس، لكن عبد السلام آزره وحماه. وعبد السلام لم يخضع في قراراته البتة إلى اعتماد التصور الأمني في اختيار الناس للوظائف، لقد اِخترع يرحمه الله صيغة حداثية راقية للموازنة بين الأمني والمهني وحاجة الأردن. عبد السلام المجالي حالة لا تتكرر فهو الذي أمضى قرابة المئة عام في خدمة الوطن ودولة الوطن وأرقى المؤسسات، وكان هو من صنع فيها روح إدارة خاصة به.
 
أخيراً، أُشهد الله أن (عيال عطا لله) رحم الله من مضى منهم إلى جوار ربه وأطال الله في عمر من بقي قد أسسوا صورة وانطباعا وحقيقة عن شهامة الأردني وعن تسامح الأردني وعن عروبة الأردني وعن الخلق الأردني، خاصة عبد السلام وعبد الهادي.
 
التنوع هو من صنع من عبد السلام هذه الأسطورة. أبوه من روح الكرك، وأمه شامية، وزوجته إنجليزية، وهو أبو سامر مثل يحتذى وصورة نقية للتنوع والحرية والوطنية.
 
في وفاته أمس تذكرت بعض حكم له في الاعتصام بالصمت، وأنا آوي إلى مكتبه في المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، حين كنا نشغل ذات المبنى. كان يقول لي دوما: الجيش يا أحمد هو من صنع من الأردنيين مجتمعا واحدا موحدا، والجيش هو من قضى على الآفات المرضية المزمنة، والجيش من حضّر المجتمع، وطمأن اللاجىء.
 
في جنازته أمس أقول خاتما: صدقت أيها الكبيرـ والله إن الجيش العربي (سترة لنا)، لقد وهبك أمس بحضوره البهي في لحظة وداع الأردن لك نورا وبهاء أنت من يستحقه. وأثبت أنه سترنا وستارنا. نم قرير العين، يا قرة عين الأردنيين ورمزا من رموز إجماعهم. والبركة في ذريتك الصالحة: سوسن وسامر وشادي. يرحمك الله كنت نعم العم أيها الراحل العزيز.