الغد-عزيزة علي
ضمن سلسلة سرد وشعر التي تصدرها وزارة الثقافة، صدر للشاعر ورئيس رابطة الكتاب الأردنيين الأسبق سعد الدين شاهين ديوان بعنوان "أعيدوا لي الجمجمة"، يضم الديوان قرابة36 قصيدة شعرية تتحدث عن الأرض والإنسان والحرية.
في مقدمته للديوان يقول شاهين، إنه ما زال مواظبا على الالتفات إلى الغرب عبر التلال العمانية الحبيبة، نحو مغرب الشمس، وهي عبارة باتجاه القدس بعد اغتسالها في ماء الشريعة إلى عرتوف قريتي الوادعة في حضن القدس وأكتافها؛ لتصلي بامتداد فلسطين كلها.
ولأنني عُروبي مؤمن بأن الحق العربي فرض كفروض الصلاة على كل العرب والمسلمين، وفلسطين هي حق عربي مقدس، ولأنني مؤمن بوقع الكلمة التي لا أملك بديلا عنها أدمنت الكتابة؛ لثقتي أن نقطة الماء المتساقطة من عل تحفر الصخر. وإن شقا في صخرة يحتضن بذرة شجرة تطرح ثمارا بعد حين.
وأعترف أنني في لحظة من وقوف الكلمة والعبارة والمقطوعة الشعرية والموسيقية واللوحة في حنجرة مُبدعها، كما لو أنها على شفا جرف مار في زماننا الحاضر، برغم عجز كل انزياحات هذا الجمال من التصدي لموبقات العصر الذي يدعي محركو خيطانه أنهم برؤوس أصابعهم يتلاعبون به، وبمصائر شعوبه كالدمى في أيديهم الآثمة بدعم الطغيان والاحتلال.
أما كل ذلك، وقبل أكثر من سنتين، كنت قررت في دواخلي التوقف عن الكتاب والبقاء على اللحظات المتاحة لي للقراءة، إشغالا للفكر حتى لا يعلوه الغبار كبقية أشيائنا التي يراد لها النسيان، أمام هرولة التطبيع مع محتل يظن أن أجيال النكبة والنكسة سينقرضون، وأن الأجيال القادمة ستنسى، وأمام فشل هذه المقولة على أرض الواقع ستظل فلسطين تنبث في جينات أجيالنا.
إلى أن شاهدت على إحدى الفضائيات وفي نشرة الأخبار خبرا أثار الغضب، وزاد من نسبة الملح في ماء عيني.. كان مفاده الإفراج عن عظام شهيد فلسطيني بعد أكثر من عشرين سنة من احتجاز جثمانه، بعد استشهاده وتسليمه لوالده. كان الوالد منحنيا يقبل عظام جمجمة ابنه الشهيد، وهو يستلمه من العدو المحتل. وفورا تقافز إلى ذهني قصة آلاف الجماجم للشهداء الجزائريين في الأوراس، وباقي المدن الجزائرية المناضلة إبان حرب التحرير الجزائرية، والتي ما تزال إلى اليوم مرقمة ومحتجزة على الرفوف في متاحف فرنسا، ويرفض المستعمر الفرنسي المطرود من الجزائر المحررة الإفراج عنها، وتسليمها لأهلها وذويها إمعانا في ذل أهلهم الجزائريين الأبطال.
من هنا دوت لدي صرخة "أعيدوا لي الجمجمة"، فكان المشهد متكررا في فلسطين المحتلة، وكان هذا الديوان الخامس عشر للكبار في مسيرتي الإبداعية. فالمحتل واحد ببطشه وجبروته ولو تقنع بألف قناع، فلا حرية ولا عدالة ولا مساواة ولا حقوق إنسان، ولا إنسانية لديهم إلا على صفحات الكتب، وفي الخطب والكلمات البروتوكولية التي يحاولون بها تزويق بياناتهم، وتجميل المؤتمرات والاجتماعات التشاورية التي يراد بها خداع وتخدير دول العالم الثالث وشعوبها المطموع في ثرواتها؛ نتيجة تفرقها وضعفها وتسلط أنظمة الحكم الاستبدادية عليها، والمرتبطة بمصالح شخصية مع هذا المحتل، أو المستعمر بطريقة أو بأخرى.
فقررت العودة للكتابة، حتى لو وقفت كلماتي على حنجرة جرف هاو الذي يوشك أن ينهار، لعل من يسمع الصرخة ويشاركني استمرار البحث عن الوطن مهما طال الزمن، فلا أرض تستبدل عن أرضه، ولا وطن يكون بديلا له- مع حبنا لكل بلاد الوطن العربي الحبيب. لنزرعه ثانيا بذرة بذرة وشتلة شتلة في أعماق أجيالنا المعول عليها، حتى لا نحرمهم حقهم في البحث عن وطنهم الأم دائما.
وعن الحرية والإنسانية والعدالة وحق تقرير المصير الذي حُرمنا منه نحن جيل النكبة وجيل النكسة وما بعدها، محاربا للتطبيع مع المحتل، مستغلا الحق الذي شرعنته القواعد والدولية والأمم المتحدة في التعبير والمقاومة لكل ظلم واستعباد واحتلال، مُدويا بصرختي هذه إلى النقاء الأهل من المحيط إلى الخليج العربي، مشرقا ومغربا في وحدة أمرنا بها رب العزة، وما زلنا نفتقدها، ونبحث عنها.
في القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها "أعيدوا لي الجمجمة"، يستذكر فيها شاهين الاحتلال والبطش وكذلك الشهداء في فلسطين، والجزائر حيث تقول القصيدة: "حين يروي مسقط الرأس/ تفاصيل الولادة في ظلال الاحتلال/ فإن عظم الجمجمة.../ هو ما يُدلي بأوصاف الجناة القتلة/ثم لا يكتمُ سرا... أن في العادة كانوا يتركون النصل/في جوف الوريد/ها أنا في احتباس الموج/أوصي الأبيض المتوسطي في يافا/ ينُث رذاذه ليفق رأسي/منذُ غفوته على صوت الرصاصة/ كي أعود بشكل جمجمة إلي/وألتقي بجنين ثانية لأبدأ من جديد/ستون عاما دون جمجمتي/وقد سدوا عليها السجن حتى لا تعود/ وتشدني كل المواسم؛ كي أفيق لعلني/أتحسس الرأس التي كانت على كتفي/منذ وصول الفرنجة موطن الشهداء في الأوراس/ واحتتشدوا لنحتمل المزيد/ لا رأس للشهداء إن سُرقوا/سوى كتفين من وجع/وطارد كبرياء من وراء البحر/جاء ممددا... وطريد/ ومعي الشواهد أنني قد عشتُ مطعونا/بلا رأسي الذي سلبوه عن كتفي/حين سقطتُ مغشيا علي/ولم أفق إلا هنالك في متاحفهم/ وقد سرقوا على عجل عيوني السود.../وبقيتُ وحدي بانتظار الباب للحرية الحمراء/أوشك أن أرى وطني وأهلي/لم يكن فيهم خؤون أو قعيد/شاهدتُ أشلائي تحدق في البلاد/من المحيط إلى الخليج/ولم أر في ورود الحقل أو زهر البنفسج لونه الأزلي.../ لم أسمع عصافيرا تُزقزق في بلادي/ثلما كانت تغني في صباحاتي على الريق/وتشدو... وتُعيد/ موطني... موطني/أيها الساكن ما بين عظامي والوريد/(قد عقدنا العزم أن تحيا)/ كما كنت عصيا وعتيد/ أولا تكفي السنون الغابراتُ لأسترد عظام جُمجمتي/ وأجمع لحم رأسي مرة أخرى إلي/...".