الخاسر يبقى وحيدًا*د. صبري ربيحات
عمون
بالرغم من كمية الصواريخ التي اضاءت سماء الشرق الاوسط وتحليق مئات الطائرات التي لا نعرف من أين انطلقت ولا كيف زودت .وبالرغم من البيانات التي أدلى بها المعنيون وغير المعنيين حول مواقفهم ومخاوفهم وتطلعاتهم الا ان الحرب الاخيرة كانت اكثر حروب القرن انضباطا ، وأكثرها فعالية في تنفيس احتقان الأطراف والتمهيد لفصل جديد من العلاقات بين الولايات المتحدة وطرفي الصراع وبين إسرائيل وايران بعدما عرف كل طرف حجم القوة والتأثير والتحمل لدى الاخر .
لعقود طويلة ظلت الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان على تشويه صورة إيران وتأليب العالم عليها وتحذير الجيران من مخاطرها واطماعها في التمدد والهيمنة. وسعتا معا الى منع تمددها وتقليص نفوذها وتصويرها كنموذج لكيان عقائدي بدائي يسعى الى امتلاك القوة النووية لتدمير اسرائيل والحضارة الغربية .
ولتحقيق هذه الغايات تبنت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون سياسة خارجية تقوم على مبدأ شيطنة النظام الإيراني واعتباره عدوا للنظام العالمي الحر وحضارته الزاهرة .
ولم تكتفي إسرائيل بذلك، بل نصبت نفسها قوة تعمل للدفاع عن القيم والافكار والمصالح الغربية في اقليم تصفه بالتخلف والرجعية والتطرف والارهاب الذي يجب ان يحارب من خلال كل السبل والوسائل والصيغ التي نحتتها الماكنة الاحتلالية وروجت لها المؤسسات الإعلامية والبحثية التي تدور في فلكها .
الحملة التي اخذت صيغا و اشكالا مختلفة كانت العامل الاساسي وراء اذكاء الانقسامات المذهبية بين الشيعة والسنة وتغذية الخلافات وافتعال اجواء لاشعال الحرب بين كل من العراق وايران ودعم المعسكر الغربي والولايات المتحدة والعرب للعراق ودعم الاسرائيلية العالمية لفكرة مفادها ان الخطر على الامة العربية قادم من الشرق ولا بد من التصدي له ومنع انتشاره .
خلال حرب ايران مع العراق والتي دامت لثمان سنوات نجحت القوى الامبريالية في وقف تقدم مشاريع البناء والنهضة في العراق وعطلت بناء قوة حقيقية لدولة عربية كانت على شفا التحول لدولة صناعية ذات قدرات عسكرية .
من جانب اخر تمكن الغرب من بناء صورة ذهنية قاتمة لإيران باعتبارها وحش ملفع بالسواد يطمح الى اجتياح العالم ويمكن ان يسلب جيرانه كل النعم والرفاهيه ويضع حدا للرخاء والترف الذين اصبحا سمة بارزة لمجتمعات الوفرة المجاورة .
لقد تمكن الإعلام الغربي في غضون عام او اقل من رسم صورة قاتمه للنظام الإيراني جرى بناء ملامحها وبلورتها خلال أحداث اجتياح المتظاهرين لسفارة الولايات المتحدة واحتجاز العاملين فيها عام ١٩٨٠ وتطويرها بخلق وتهيئة أسباب الحرب العراقية الإيرانية وإعطاء هذا الصراع صبغة إقليميه واستخدم الصراع كمناسبة لإحياء الفتنة الطائفية وزرع بذور التناقض والفرقة داخل المجتمع العربي والإسلامي.
إسرائيل التي قال رئيس وزراءها بنيامين نتينياهو" ان أبرز ما حققته اسرائيل منذ تأسيسها انها نجحت في تفتيت العالم العربي والاسلامي الذي واجهته متحدا عندما تأسست عام ١٩٤٨ ". نعم ، لم يعد العالم العربي موحدا كما كان ولم يعد العرب يحملون نفس الأحلام ولا يتفقون تماما على تعريف من هو العدو او الصديق فلكل كيان عربي وزعامه عربية تعريفاتها التي تتطابق مع مصالحها ورؤيتها وانحيازاتها.
في الحرب الاخيرة تكشف لإيران والعالم هشاشة الانظمة الشمولية وسهولة اختراقها بالعملاء والجواسيس فقد كاد الجواسيس والعملاء ان يطيحوا بكيان يعتبر الوريث لإحدى اقدم الامبراطوريات التي اهدت الى البشرية الكثير من المعارف والانجازات الفكرية والرمزية والمادية سادت العالم واخضعته لسلطتها قبل ظهور الإسلام حضارة اتسم شعبها بالصبر والعناد والصلابة .
بالمقابل ادركت إسرائيل محدودية قدراتها وضعفها وشكل ونوع الأخطار التي يمكن ان تؤدي إلى نهايتها فهي في مرمى نيران الجيران ولا يمكن لها الاستمرار او البقاء اذا ما ابقت على غطرستها وتعاليها وعدوانيتها .
الرابح الاكبر من النزال الذي وقع مؤخرا كان دونالد ترامب الذي اعاد صياغة الأحداث لتشير ان بمقدوره ان يعيد تشكيل العالم وحل الصراعات من خلال استعراض القوة وتطبيق مباديء تتحرر من الإرث السياسي الذي اتبعه الديمقراطيون وابقى على الكثير من القضايا معلقة لزمن طويل .
في سجل ترامب اليوم انه أطفأ شرارة الحرب بين الهند والباكستان وسمح لكل من إسرائيل وايران ان يتصارعا ضمن ضوابط جنبت العالم حربا عالمية ثالثة وهو يسعى اليوم الى وقف الصراع الروسي الاوكراني وينهي الاعتداءات الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية .
اظن ان إيران اليوم اكثر ارتياحا كونها استطاعت ان تثأر لخسارتها وقد منحت فرصة لترتيب بيتها الداخلي واعادة التموضع في الاقليم بعدما سمح لها بفتح وشرعنة قناتها التجارية مع محيطها الاسيوي فقد تراجع بنية مؤسساتها وتتخلص من العملاء في هياكلها الإدارية والسياسية والعسكرية ، وتحصل على استراحة محارب تلتقط فيها الانفاس لتحديد مسارات المستقبل.
بالمقابل لقد اعتقد نتينياهو ان بامكانه ان يسجل انتصارات على جبهات جديده ليقول لشعبه انه الاقدر على تحديد الاخطار الوجودية والتصدي لها وليستخدم الذخائر والتكنولوجيا التي اغرقته بها الولايات المتحدة وأوروبا في مجالات تتجاوز قتل الاطفال الجياع والشعب الاعزل في غزة وليبرر الجنون الذي يمارسه بالقول ان التهديدات التي تواجهها إسرائيل لا تقف عند حماس وحزب الله بل تتعداها الى مسافات تتجاوز الألفي كيلومتر شرقا .
لم تنجح إسرائيل بتحقيق اهدافها المعلنة فلم تدمر القوة النووية ولم تكسر شوكة الفرس ولم يتهاوى نظام الملالي ولم ينجح العمل الاستخباري الذي استمر لاعوام في تحقيق كل الأهداف التي يحتفلون اليوم بتحققها.
الحقيقة المؤلمة ان أمتنا العربية هي الخاسر الوحيد فلا هدف ولا وجود ولا اعتبار فالجميع يتقاتلون على تقاسم ثرواتها وهم منشغلين في اللهو والتأمل وقمع شعوبهم.