الغد
كان من الجيد أن يغادر عدد من الوفود القاعة عندما بدأ بنيامين نتنياهو كلمته في الأمم المتحدة. كان هذا أبسط تعبير عن الضيق بمجرم الحرب العالمي المتبجح. وفي الحقيقة، لو لم يفعل نتنياهو سوى إلقاء هذا الخطاب المتغطرس لكان هذا كافيًا لأن يكرهه كل شخص في الشرق الأوسط. كان كما لو أن الشرق الأوسط ملك أبيه، وأن المنطقة لا تستقيم ولن يكون لها مستقبل إلا به وبكيانه المختلق، وأنه يستطيع أن يربّي كل من لا يعجبه هذا الترتيب بصفعه بـ»ذراع إسرائيل الطويلة». وليست رؤيته، كما يقول، اجتهادًا من عنده، وإنما ترتيب إلهي جعل يهود الكيان الصهيوني مفوضين من الله بتقرير النعمة والنقمة، ليس للشرق الأوسط فحسب، وإنما للعالم. قال في الخطاب:
«إن هؤلاء القتلة المتوحشين، أعداءنا، لا يسعون إلى تدميرنا فحسب، بل يسعون إلى تدمير حضارتنا المشتركة وإعادتنا جميعًا إلى عصر مظلم من الطغيان والإرهاب. عندما تحدثت هنا العام الماضي، قلت إننا نواجه نفس الاختيار الخالد الذي وضعه موسى أمام شعب إسرائيل قبل آلاف السنين، عندما كنا على وشك دخول الأرض الموعودة. أخبرنا موسى بأن أفعالنا ستحدد ما إذا كنا سنورث للأجيال القادمة نعمة أم نقمة».
ورسم نتنياهو توزيع «النعمة» و»النقمة» في خرائط، وقال: «هذا هو الخيار الذي نواجهه اليوم: لعنة العدوان الإيراني المتواصل، أو نعمة المصالحة التاريخية بين العرب واليهود». وأضاف: «سيداتي وسادتي، بينما تدافع إسرائيل عن نفسها ضد إيران في هذه الحرب التي تخوضها على سبع جبهات، فإن الخطوط الفاصلة بين النعمة والنقمة لا يمكن أن تكون أكثر وضوحاً. هذه هي الخريطة التي قدمتها هنا العام الماضي. إنها خريطة النعمة.
«تُظهر الخريطة إسرائيل وشركاءها العرب وهم يشكلون جسرًا بريًا يربط آسيا وأوروبا. بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، عبر هذا الجسر، سنمد خطوط السكك الحديد وخطوط أنابيب الطاقة وكابلات الألياف الضوئية، وسيخدم هذا تحسين حياة ملياري شخص».
«والآن لدي سؤال، وأطرحه عليكم: ما هو الخيار الذي ستتخذونه؟ هل ستقف أمتكم إلى جانب إسرائيل؟ هل ستقفون إلى جانب الديمقراطية والسلام؟ أم ستقفون إلى جانب إيران، الدكتاتورية الوحشية التي تستعبد شعبها وتصدر الإرهاب إلى مختلف أنحاء العالم»؟
وإذن، العرب في عين نتنياهو إمعات، بلا شخصية ولا إمكانية للتصرف بلا وصاية أو مهيمِن خارجي. والخيار، حسب رأيه، بيّن؛ الوقوف مع من يشتركون معه في القيم والمصالح، الضعفاء الذي سيدافع كيانهم عنهم:
«في هذه المعركة بين الخير والشر، لا ينبغي أن يكون هناك أي لبس. فعندما تقفون إلى جانب إسرائيل، فإنكم تقفون إلى جانب قيمكم ومصالحكم الخاصة. نعم، نحن ندافع عن أنفسنا، ولكننا ندافع عنكم أيضاً ضد عدو مشترك يسعى من خلال العنف والإرهاب إلى تدمير أسلوب حياتنا. لذا فلا ينبغي أن يكون هناك أي ارتباك حول هذا الأمر، ولكن من المؤسف أن هناك الكثير من هذا الارتباك في العديد من البلدان وفي هذه القاعة ذاتها، كما سمعت للتو».
أما الذي يسيء الاختيار، فسوف يربّيه كيان نتنياهو، في الشرق الأوسط كله، وتكون إيران هي العبرة:
«ولديَّ رسالة إلى طغاة طهران: إذا ضربتمونا، فسوف نضربكم. فلا يوجد مكان - ولا يوجد مكان في إيران - لا تستطيع الذراع الطويلة لإسرائيل الوصول إليه. وهذا ينطبق على الشرق الأوسط بأكمله».
خطاب مهين للعرب بكل مقياس. إنه يخبرهم بأن وجود الكيان، من دون فلسطين إلى الأبد، وتحطيم لبنان وسورية والعراق، وإيران، هو طريق الخلاص. ولديه الصورة المثالية للشرق الأوسط معاد التشكيل الذي يكون فيه الكيان– ومن ورائه حليفته الدائمة، الولايات المتحدة- في مركز القوة الإقليمية المهيمنة. الكيان هو القوة التي «لا غنى عنها»، القادرة على قيادة المنطقة نحو عهد جديد من النمو الاقتصادي والأمن. إنها مالك التقني والعسكري، وبذلك القائد الطبيعي للشرق الأوسط، القادر على توجيه جيرانه نحو التحديث والازدهار.
وفقًا لهذه الرؤية، يجب أن تتماشى الدول العربية مع سياسات الكيان، وتنضوي في تحالفات تخدم في المقام الأول مصالحه الأمنية، بينما تعزز نفوذ أميركا وسيطرتها على المنطقة. وتقوم هذه الرؤية على افتراضين: أولاً، أن التفوق العسكري والتقني للكيان يبرر دوره القيادي في المنطقة، وثانيًا، أن الدول العربية لا يمكنها الازدهار من دون توجيه الكيان الصهيوني وأميركا. والكيان، كقوة مهيمنة «خيّرة»، مستعد لتقاسم تقدمه وبنيته التحتية الأمنية مع المنطقة، وهكذا تترسخ الهيمنة «الأميركية-الإسرائيلية» في الشرق الأوسط.
من الواضح أن هذه الرؤية مبنية بشكل أساسي على تطبيع الهيمنة العسكرية للكيان الصهيوني الاستعماري، مع تصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد ونسيانها. والحقيقة القاتمة خلف هذه الرؤية هي أنها تعزز الوضع الراهن للاحتلال والاضطهاد، وتؤسس لمستقبل تسيطر فيه أنظمة متهمة بالإبادة الجماعية والاحتلال غير الشرعي في قلب النظام الإقليمي الجديد.
لطالما قام كيان التطهير العرقي والإبادة الجماعية، في عهد نتنياهو وغيره، بارتكاب جرائم حرب، وممارسة العقاب الجماعي، وتنفيذ سياسة منهجية للاستيلاء على الأراضي والتطهير العرقي في فلسطين. وفي شرق أوسط يقوده هذا النظام الوحشي، يشير خطاب نتنياهو إلى أن هذه الممارسات لن تستمر فحسب، بل ستكون جزءًا لا يتجزأ من النظام الإقليمي الجديد.
أحد الافتراضات الرئيسة في خطاب نتنياهو هو أن الدول العربية في حاجة إلى كيانه الاستعماري ليقودها نحو عهد جديد من الازدهار. وهذا الافتراض ليس فقط متعالياً فحسب؛ إنه يخالف الحقائق التاريخية. لطالما امتلك العالم العربي الإمكانيات للاعتماد على الذات والازدهار، بما يمتلكه من موارد طبيعية، وتراث ثقافي، ورأسمال بشري. ولو توفرت إرادة التحرر فقط، لكانت قدرات الدول العربية أكثر من كافية لرسم مسارها الخاص نحو التنمية والاستقرار.
كما يعرف الجميع، كان وجود الكيان أهم سبب في تعطيل الإمكانات الهائلة التي يمكن للمنطقة أن تحققها من خلال التعاون بين قواها الأصلية، من دون الحاجة إلى تدخل خارجي. لا تحتاج الدول العربية قيادة نظام وحشي استعلائي لكي تزدهر؛ إنها تحتاج إلى بناء علاقات أعمق فيما بينها قائمة على الاحترام المتبادل والتكامل الاقتصادي والانسجام الثقافي. ولدى القوى الإقليمية الأصلية الإمكانيات لقيادة العالم العربي نحو مستقبل ليس قائماً على الخضوع للهيمنة الخارجية، بل على تقرير المصير والتضامن.
أما إيران، فموجود تاريخي أصلي في المنطقة، ولا يمكن إنكار ذلك. وسبق أن عاشت مع العرب في وئام لآلاف السنين، يجمعها معهم الجوار، ثم الدين. ولا يمكن أن يكون الاختلاف المذهبي الفرعي داخل أتباع الدين الواحد أعمق من التناقض الجوهري مع العقيدة الصهيونية المرتكزة على أسس دينية ازدرائية وإقصائية تبرر الاستعمار والإبادة. ويمكن استعادة الوئام مع إيران إذا تغلب المسلمون في المنطقة على الحملة الشرسة لإذكاء الطائفية القاتلة للجميع والعودة إلى المشترك الكبير: الإله الواحد والنبي الواحد والقرآن الواحد، وبالتأكيد المصالح المشتركة القائمة على التجاور الطبيعي في الإقليم. ويمكن للعرب أن يسعوا إلى التفاهم مع الجوار بقوتهم الذاتية من دون الحاجة إلى الانصياع للكيان الصهيوني الكاره طبيعيًا للعرب والمسلمين، وراعيته أميركا، أكبر قاتل للناس في تاريخ البشرية، خاصة العرب.
لا ينبغي أن يقبل عربي بخطاب نتنياهو المهين المتعالي، المتنمر والازدرائي. وتكشف استطلاعات الرأي في الكيان أنه ليس رأيه وحده، وإنما رؤية أغلبية المستعمرين في كيانه. ومن المؤكد أن الشعوب العربية ترفض بكل عواطفها وعقلها وجود الكيان القاتل في المنطقة، المشروط أساسًا بإعدام الشعب الفلسطيني العربي الأصيل. والبديل هو تطبيع التبعية والهوان، بثمن لن يكون في أي حال الحرية، والازدهار، وتقرير المصير.