عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Jul-2020

نايف النوايسة: المثقف يُواجه الحصار الكوروني بإبداعاته

 عمان - الراي - أحمد الطراونة - قال الأديب نايف النوايسة إن مرحلة ما بعد كورونا ستكون حاضرة بوضوح في فضاء الأدب، ولن تكون غيمة صيف تعبر.

وأضاف أن مرحلة كورونا لم تكن أزمة عابرة في منطقة بعينها كيلا يذهب الظن إلى أن أثرها سيتلاشى بمجرد انتهائها، وإنما هي قضية عالمية إنسانية ألقت ظلالها في كل بيت على وجه الأرض وفي نفوس الصغار والكبار وحولت العالم كله إلى حارة كونية لمواجهة فيروس لا يرحم.
وتساءل النوايسة في حواره مع $ قائلا: «هل بوسع المثقف أن يحوّل مصيدة القلق من انتظار للموت إلى فتح آفاق جديدة من الأمل بحياة ممكنة؟ هل يهرب إلى الأمام طالما أن ما خلفه أصبح يباباً؟».
تاليا نص الحوار الذي تحدث فيه النوايسة عن رؤاه وانشغالاته خلال زمن «كورونا»:
وكأن ذاكرة الناس البسطاء تسكنك، توجّه بوصلتك لتحاور أحفادك عن مستقبل يسكن العتمة، فهل أنجزت الحوار؟
- هو ديدني الذي لم أحِدْ عنه منذ خمسين ونيّفاً، أي منذ صار القلم جاراً لروحي وأمين سرٍّ لحروفي؛ إذ إنني جمعت طوال هاتيك الأعوام بساطة الكبار إلى براءة الأطفال فالتقى الجمعان على صعيد الطهر المستفز للمعاني في عُقر اشتعالها وللحروف في رياض فصاحتها، فكنت قريباً من كبار السن في تجمعاتهم على محفة الانتظار فأحرّضهم على النطق بما استَكَنَّ في رؤوسهم فتنطلق ألسنتهم ببراءة تستحق التقييد، فكانت قصصي ملاصقة لأروحهم، والتقطتُ مما ينثرون من أوابد التراث التي تكاد تضيع بعد حين.
أما براءة الأطفال، فهي ما يستهويني التَّماس معها حين أسعى وراءهم راكضاً؛ كاللقّاط وراء الحصاد، فرؤوسهم صناديق غامضة وسعيي خلفهم هو لفك مغاليق هذه الصناديق ثم الخروج من عتمة غموضها بِدُرّة إبداعية، فكان إهدائي لكتابي الأول للأطفال (أبو المكارم) هو للطفل وسام الذي نيّف عمره اليوم على الأربعين، وتلا ذلك مجموعة من الكتب للأطفال كان آخرها المنشور هو رواية (سارة والديكان)، ولم تَكِلّ شِرّة هذا الدأب أو تفتر، فقد آليت على نفسي أن أصنع سلسلة روايات للأطفال عنوانها (سلسلة الأحفاد)
وحاورت فيها عقولهم وعيونهم وبراءتهم واهتماماتهم، فكان لكل حفيد من أحفادي السبعة عشر رواية تحمل اسمه والموضوع الذي وجدته يليق به، وكم أُسأل منهم عن موعد طباعة هذه الروايات بعد أن قرأتها على بعضهم وصارت جزءاً من حلمهم الجميل وحديثهم الذي لا ينقطع.
كثر الحديث عن أدب «ما بعد كورونا»، هل كتبت عن الجائحة؟ وهل ترى أنها أسهمت في رسم ملامح مرحلة جديدة في تاريخ الأدب؟ أم إن الأدب يهرس الجوائح لتسقط في جرابه الواسع دون أن تذكر؟
- لم تكن مرحلة كورونا أزمة عابرة في منطقة بعينها حتى لا يذهب الظن إلى أنها سيتلاشى أثرها بمجرد انتهائها، وإنما هي قضية عالمية إنسانية ألقت ظلالها في كل بيت على وجه الأرض وفي نفوس الصغار والكبار وحولت العالم كله إلى حارة كونية لمواجهة هذا الفيروس الذي لا يرحم.
ورسخ في ذهني أننا نعيش بعد المواجهة العالمية الرابعة مع الزحف الكوروني مرحلة وجودية ثقافية جديدة كتبت عنها مقالةً نشرتها في إحدى الصحف عنوانها (ثقافة ما بعد الكورَنة)، على غرار ما كُتب عن الحداثة وما بعد الحداثة، ومرحلة ما بعد العولمة، وقلت فيها: هل أعاد فيروس كورونا هندسة العالم؟ أو بلغة ثقافية هل يُعيد هذا الفيروس إنتاج البشرية من جديد، بعد مرحلة التوحش بكل إداراتها المتجبرة، ومرحلة الرعب التي أنتجت الظَلَمةَ ووكلاءهم في العالم؟
وقلت أيضاً: ضاق الواقع علينا كلما اقترب الفيروس منا، حتى ألفى الإنسان نفسه بلا واقع، فجنح المبدعون وأصحاب البصيرة إلى الاستشراف، واعتلاء أجنحة الثقة على كفّ الحياة إلى ما وراء هذا العدو الذي لا يرحم ولا يهادن، نعم المثقف وحده هو من يُواجه الحصار الكوروني بإبداعاته الاستثنائية.
وتساءلت: أبوسع المثقف أن يحوّل مصيدة القلق من انتظار للموت إلى فتح آفاق جديدة من الأمل بحياة ممكنة؟ هل يهرب إلى الأمام طالما أن ما خلفه أصبح يباباً؟ وأمام هذا الواقع الذي ضاق، اهتزت قواعد المفاهيم التي نظنها استقرت، والمعايير التي استحكمت، والدول والكيانات التي مللنا وجودها ولا ندري كيف ستنزاح وتغرب أثقالها..
إنه عصر جديد فتح لنا أبوابه هذا الفيروس (ما بعد الكورَنة)، ولعلكم تعرفون الحداثة وما بعدها والعولمة وما بعدها، وهذه المرحلة تَجُبُّ ما قبلها.
وكتبت بعض القصص التي ضمنتُها رؤيتي في ثقافة ما بعد الكورنة، وكان أبرز ما كتبت (المقامة الكورونية) والتي ستكون ضمن كتابي (مقامات نايف النوايسة) الذي سيصدر قريباً.
في يقيني أن مرحلة ما بعد الكورنة ستكون حاضرة بوضوح في فضاء الأدب ولن تكون غيمة صيف تعبر، وهذا ما أراه متعالقاً في ما يكتبه الزملاء المبدعون في وطننا العربي وفي الأردن بخاصة.
عن أيّ إجابة تبحث وأنت تسأل في قصصك عن كل هواجسنا؟
- إلى الجوار من عالم البراءة والبسطاء، هو تشغيلي لحواسي وفكري ومواقد إبداعي بكامل طاقاتها لاصطياد كونٍ قصصي مُجلّلٍ بدسم الفرادة الإبداعية الدّالّة على تجربتي الإبداعية، وكل ما يكون من نثار هذا الكون هو راشحٌ بما أوقفتُ عليه رؤيتي في الحياة والتي تبحث في المعنى الإنساني الوجودي للإنسان وارتباطه باستخلافه على الأرض في إطار غير عابث ولا يغادر مطلقاً مبدأين راسخين في قصصي وما أكتب هما (العقل والحرية)؛ فالإنسان العاقل لا معنى لعقله إن لم يستشعر الحرية ويناضل من أجلها، ولا تستقيم الحرية على قاعدة المنطق إن لم يكن الإنسان عاقلاً وموجهاً لطاقاته لإعمار الأرض ولخير البشرية، ويظهر الاختلال عند الفرد والمجتمع إذا خفتت قوة هذين المبدأين، حينئذ يولد العنف والتطرف والعنصرية وتصبح السيادة لمجتمع الكراهية.
تحمل فانوسك في عزّ النهار وتسير في أزقّة المزار منذ زمن بعيد، تبذر الوعي على الأرصفة، فهل نبتت البذار؟ وكيف تقيّم الزرع؟
- تضجّ المزار بنبض الصحابة الأجلاء الذين اختاروها مرقداً لأجسادهم الطاهرة ودمهم الزكي، ولم تكن المزار وحدها على هذا الدرب الجليل، فكانت بالجوار الكرك ببلداتها ومؤاب ومؤتة وكل المشرف والمطلاّت والمشاريق والمغاريب، وأنا منذ وعيت هذا الخيط من جلال الصمت في أزقة المزار والأرصفة الملأى بالعيون المتحدثة، وتراني أجوبها في كل حين ومعي كل أصدقائي الذين قيدتهم في دفتر عائلتي الأدبية مثل أبي طليب والنصّات بن لقلاق وفلحان وسرحان وممرور بن مسرور وأم الودع والطيّار وابن جدعان وحمدان وأبو لحاف ودرباس وحسناء ومجلي وعبيد وأم فتحي والسيد اسماعيل وأم وردة، وغيرهم كثيرون.
هؤلاء هم حملة فانوسي الإبداعي، أركض وراءهم فأدخل كل بيت وكل رأس وكل قلب وأجري معهم كأنفاسهم ودمائهم وأتوغل في مشاعرهم لأصل إلى إجابات مقنعة في هذا التيه الذي نسميه (الحياة)، فكان يناديني البعض بأبي المكارم فأُدرك بأنهم
استوعبوا ما في مجموعتي (أبو المكارم)، وبعضهم ينطق حين يراني بـ (دمعة أبي طليب) فأفرح كثيرا لأنني تيقنت من تشرّبِهم معاني قصة (دمعة أبي طليب)، ومثل ذلك قصة رحيل الطيار والمسافات الظامئة وخرمان، ولكن قصتي (قلب أمي) عمّقت يقيني بأن زرعي الذي زرعته منذ خمسين عاماً أينع في قلوب من حملت فانوسي بينهم، فهذه القصة التي كتبتها سنة 1978 ،قررتها وزارة التربية والتعليم في مناهجها المدرسية ثمانية أعوام في ذات زمن وجعلتني أتداخل في معانيها مع الأجيال حتى هذه اللحظة، وامتدت أجنحة هذه القصة مع رفيقة لها هي (الكرتونة) لتكونا سفيرتين للأدب الأردني في مناهج دولة الإمارات.
وحينما كتبت قصتي (ابن جدعان) وجعلتها عنوان مجموعتي القصصية الأخيرة ونشرتها سنة 2017 ،فوجئت ببطل القصة (ابن جدعان الخرشة) بزيارته لي في بيتي، فكانت الدهشة عندي مترعة حين التحم البطلان في بيتي في شخص واحد (بطل معارك القدس، وبطل قصتي/ مصطفى الخرشة ابن جدعان)، حينها أدركت بأنني لا أكتب عبثاً، وأن ما أكتبه لا يتكسّر على شواطئ الإبداع كالموجات العابثة.
التراث الأردني، المادي وغير المادي، هل أنت راض عمّا قدم لحصره والحفاظ عليه؟ أم إن هنالك الكثير من الذاكرة الشعبية قد ذهبت دون أن تسجَّل؟
- ما قبل دائرة الثقافة والفنون (التي أصبحت في ما بعد وزارة الثقافة) كانت الجهود المبذولة لجمع التراث الثقافي المادي وغير المادي جهوداً فردية ارتبطت بباحثين كبار لهم الريادة في ذلك مثل روكس بن زايد العزيزي ود.هاني العمد على سبيل المثال، وبعد تأسيس المديرية وتلاها تأسيس الوزارة أصبح هناك جهد مؤسسي لمسح التراث وحصره وتقييده على الورق وعلى أشرطة (الكاسيت)، فضلاً عن مجلة الفنون الشعبية والمؤتمرات والندوات الخاصة بالتراث.
ولا يقف الأمر على وزارة الثقافة وما قدمته وتقدمه حتى الآن، فهناك جهات أخرى اهتمت أيضاً بالتراث وأثرت البحث فيه كالإذاعة والتلفزيون والصحافة.
ومن خلال تجربتنا في المكنز الوطني للتراث الأردني الذي حملتُ فكرته معي حين مثلت وزارة الثقافة في مؤتمر الخبراء العرب في التراث سنة 2005 في القاهرة وتبنتها الوزارة، تبيّن لي أن ما نقوم به هو عمل ثقافي كبير لجمع كل ما يتعلق بالذاكرة الجمعية الشعبية، ومع أننا أنجزنا العديد من الملفات التي رصدنا فيها عناصر التراث الثقافي غير المادي وقيدناها بطرق بحثية علمية تنسجم مع مناهج البحث التراثي العالمي والعربي بالتعاون مع زملاء وزميلات كرام في لجنة المكنز ومديرية التراث بوزارة الثقافة، إلاّ أن هناك الكثير من مكونات الذاكرة الشعبية قد فاتتنا بغياب كبار السن والإخباريين، وحاولنا سد هذه الثغرة من خلال الوصول إلى بعض المصادر القديمة كالوثائق والأوراق الشخصية والكتب والرحلات الأجنبية ونحو ذلك.
وأعترف هنا من واقع تجربتي بجمع التراث من أواسط السبعينات بأنه فاتنا الكثير من عناصر تراثنا، وما تم رصده بجهود كريمة وجادة ومتسارعة من الزملاء في مديرية التراث في وزارة الثقافة هو نزر بسيط واستدراك لبعض الفيض الذي نازعتنا به السنين بغياب حملة التراث ووفاة معظمهم.
* كيف ترى دور الأدب في إعادة بناء هذه الذاكرة في ظل غياب أيّ دور للجهات الرسمية في ذلك؟
- هذا السؤال يقودني إلى العلاقة الوثيقة بين الأدب وعناصر التراث الثقافي بشقيه؛ ففي الشعر وفنون السرد والمسرح والدراما متسع للعودة للذاكرة الشعبية وإعادة بنائها، حتى مع وجود الجهات الرسمية المعنية بالتراث فإن دور الأديب لا يغيب عن إثراء الذاكرة الشعبية بتوظيفاته الضرورية لعناصر التراث، وكم وجدت في الأدب الأردني من شعر ورواية وقصة ثم في المسرح والدراما ما يخدم جهود الباحثين في التراث ويعزز ذاكرة الأجيال بهُويتنا الثقافية وتأصيلها باعتبار أن شجرتنا الحضارية ما زالت قوية بجذورها التراثية وتعطي ثمرها الخاصة بكل ثقة ومن دون خجل. وستظل جهود الأدب متواصلة في عطائها حتى وأن غابت الجهات الرسمية.
ماذا يفعل أديب ترك بعضه في معظم الاجناس الأدبية، وما زال يحلم في قصته الأخيرة؟
- مهما كان من شأن ذاتي الإبداعية في تشعباتها على حجرات الأجناس الأدبية فإنني سأظل القاص الذي بدأ قبل عقود بترجمة حلمه الإبداعي في قالب القصة القصيرة.. كانت البداية بقصة (قلب أمي) التي كتبتها سنة 1978 وحضنتها مجموعتي القصصية الأولى (المسافات الظامئة) وصدرت سنة 1993 ،وها أنا في هذه اللحظة أسعى لأكتب قصتي الجديدة (طَوْق الرَّطَانَة) ضمن مجموعتي القصصية العاشرة (أشبه بالحلم).
ومع اعتزازي بما كتبت في أجناس أدبية أخرى، إلاّ أن عنواني الأدبي الذي لا يتغير ثابت في (الحارة القصصية).