عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Feb-2021

الهاشتاغ.. تفاعلات إلكترونية تحاكي الواقع

 الراي-الدكتور عامر أحمد العورتاني أخصائي علم الاجتماع

يبدو أنّ ما كان في ثمانينيات القرن الماضي نظرية تحت اسم «الفعل التواصلي»، أصبح واقعاً مُرافقاً لتفاعلات العلاقات الإنسانية، فقد تحدث الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني «يورغن هابرماس» في نظريته عن مفهوم الفضاء العمومي الذي يُحفّز كلّ فرد فيه الآخر للفعل بطريقة مشتركة عن طريق الكلام، مُعرِفاً التواصل بأنه عبارة عن علاقة موازية حرّة بين فئات المجتمع المتعددة والمتباينة في علاقاتها، بهدف بناء وعي حرّ لا تحكمه المؤسسات أو الأيدولوجيات المفروضة، وهو مشابه إلى درجة نسبية، ما يمكن ملاحظة حصوله في واقعنا المعاصر على?منصات التواصل الاجتماعي، لا سيّما ما يحدث من تفاعل عبر تلك النافذة الصغيرة المعروفة بالهاشتاغ أو الوسم #، فهي تُمكِّن الأفراد من مختلف الشرائح والبيئات والثقافات، ودون احتساب للجنسيات أو الأعراق أو المعتقدات من الإدلاء بآرائهم، والمشاركة في نقاش واسع النطاق حول القضية محط الاهتمام، والتي لا تقتصر مواضيعها على مجال بعينه، فكلّ ما يهمّ الناس من القضايا الفردية اليومية، وما يمس حراك المجتمع السياسي والاجتماعي وظروفه الاقتصادية والثقافية، وما يواجهه من تحديات، أو قصص هامشية، أو مواقف طريفة، يمكن أن تتحوّل إلى ?ادة دسمة يتم تناقلها بين الأصدقاء والمتابعين، وذلك غالباً بهدف لفت الأنظار نحو قضية بعينها من خلال استقطاب الرأي العام نحوها، وبالتالي تقديم المساعدة، وإحداث التغيير المقصود، وهو ما يتم عبر وضع علامة الشبّاك # متبوعة بكلمة، أو شعار، أو رقم، أو عبارة مؤثرة ذات دلالة معينة حول الموضوع المستهدف، وعلى مبدأ خير الكلام ما قلّ ودلّ، سرعان ما تفعل تلك الكلمات القليلة فعلها، فيزداد التفاعل بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وتصبح القضية مطروحة للنقاش، فما أن تبدأ الحلقة النقاشية الضخمة التي تمّ عقدها في فضاء العا?م الافتراضي الواسع، والتي تمتد لزمن غير محدد، حتى يبدأ المشاركون بإبداء آرائهم، أو انفعالاتهم وانتقاداتهم، أو أفكارهم وتجاربهم الشخصية حول الموضوع، وذلك في مواجهة مدنية يحق للجميع فيها القراءة أو التعليق أو إعادة التغريد، في حالة تقترب كثيراً من أيدولوجية الكوزموبوليتية ( المواطن الكوني أو العالمي ) التي تقول بانتماء البشر لمجتمع واحد على أساس الأخلاق المشتركة.
 
وعلى ما يبدو أنّ ما كان مجرد رمز في البداية، أصبح أيقونة فاعلة ومؤثرة في الوسط الإنساني، لا سيّما وأنّ هجرة ملحوظة بدأت منذ قرابة عقد من الزمن باتجاه الإعلام الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي، فلم يعد الإعلام التقليدي مسيطراً على صناعة الخبر وبثه، وقد أصبح المتلقي صانعاً للمحتوى، ومنتجاً للمعلومة، ومستثمراً فيها، ليُصبح دون شكّ عنصراً فاعلاً ومؤثراً في النشاط الإعلامي، ولا شكّ أنّ ذلك الشبّاك الصغير بات يؤثر بشكل ملحوظ إلى حدّ معين في صناعة وتشكيل الرأي العام، وتوجيهه، وذلك من خلال قدرته على تسليط الضوء ع?ى مختلف قضايا البشر واهتماماتهم، ورفعها إلى صدارة الأولويات، أو تحويلها إلى بؤر ساخنة تستثير النقاش والجدل، وعلى الرغم من الأثر اللحظيّ والسريع الذي تتصف به تلك الوسوم، إلّا أنه من الممكن اتخاذها وسيلة لاستشعار احتياجات الأفراد، وتلمّس مشكلاتهم بشكل استباقي ومبكّر من قبل صنّاع القرار، كما أنّ الهاشتاغ بات وسيلة تثقيف سهلة وسريعة الاستخدام، إذ يمكن بالضغط عليه تتبع كل ما له علاقة بالكلمات الدلالية التابعة له، ومعرفة كل ما قيل أو نُشر حولها.
 
إلّا أنّ المجتمع المعاصر برأي «هابرماس» يحتاج إلى عقلانية تواصلية نقدية إجرائية مندمجة في العالم المعيش، فهو ينادي لأن تسعى الفلسفة إلى خلق حوار يتسم بالنضج والرشد داخل المجتمع، بشكل يضبط علاقة الفرد بالغير، وصولاً إلى المستوى الذي تخضع فيه العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع إلى أخلاقيات النقاش والحوار، بعيداً عن الهيمنة، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول جدوى هذه الخاصية الإلكترونية التي زادت من تفاعل البشر التواصلي، وأصبحت توجهه ضمن حدود معينة، فهل انتهى عهد الهيمنة على تشكيل الرأي العام فعلاً ؟ أم?أنّ هيمنة عشوائية ظهرت عبر شباك الهاشتاغ، وأصبحت توجه الرأي العام ؟ وهل يمكن الحكم بسلبية هذا التوجيه بالمطلق ؟ أم أنّ هنالك فرصة لتوجيه الأنظار نحو قضايا كانت ستبقى على الهامش، أو في دواليب الكتمان لولا الهاشتاغ ؟
 
و جميعها تساؤلات مشروعة في ظلّ عدم وجود دراسات علمية إحصائية تضعنا داخل الإطار التفاعلي الحقيقي للهاشتاغ وأثره في تشكيل الرأي العام، لا سيّما وأن هناك مواقع عالمية متخصصة في قياس نسب الهاشتاغ الأكثر إثارة، ومعرفة أعداد المتفاعلين معه، وهي تًقدم خدماتها مقابل رسوم مالية، ما يؤكد على ضرورة إخضاع هذه الأيقونة للدراسة، للوقوف على حقيقة دورها في تشكيل الرأي العام، ومعرفة مدى عدم انحياز مطلقيها في طرح القضايا، خاصة وأن الواقع يُثبت أنه ومع اتساع النطاق الذي تُستخدم فيه وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة المحتوى، و?ع وجود إمكانية استخدام هذه الوسائل للتسويق والإعلان، فإنّ إمكانية وجود محتوى كاذب أو ملفق أو مفبرك أصبح ممكناً وسهلا، وهو ما يكثر وجوده في أوقات الأزمات، وربما يمكن اتخاذ أزمة فيروس الكورونا مثالاً واضحاً على ذلك، فكم من شائعات وأكاذيب تمّ بثها بخصوص الفيروس، دون وجود أساس علمي أو طبي لها، ومن خلال حسابات مزيفة فإنه يمكن صناعة الشائعة وفبركتها وربطها بشخصية معروفة، ليتم التفاعل من خلال الهاشتاغ معها، وهكذا حتى تصبح الترند الأشهر والأقوى في العالم كلّه، ناهيك عمّا شكلته بعض الهاشتاغات من بيئة مشحونة بالكراهية و العنصرية أو الطائفية، على خلفية حوارات لا يتسع أفق البعض من المشاركين فيها لتقبّل الرأي الآخر، لتبقى القضية الأكثر تحفيزاً على القلق ؛ أن يبقى كلّ ما نراه من هشتاغات وتفاعلات اتجاه قضية معينة حبيسة للفضاء الإلكتروني، دون أن يخرج هذا التفاعل والتعاطف إلى أرض الواقع، ويُحدث التغيير المطلوب.
 
لا شكّ إذاً في أنّ الهاشتاغ يحظى بأهمية كبيرة في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، كونه يساهم في ترتيب المعلومات، واختزالها ضمن عناوين ترتبط بطبيعتها، كما أنه يُسهّل الوصول إلى كمّ هائل من المعلومات، إضافة إلى أنه يضع المُهتمّ في صورة آخر المستجدات الخاصة بالقضية الأكثر جدلاً على الساحة الرقمية، وهو الوسيلة الأمثل لحشد الدعم، واستقطاب التأييد حتى من شخصيات بارزة أو مشهورة، لكنه في ذات الوقت يفتقر في بعض الحالات إلى القوّة المهنية، ما يُعيد نظرية هابرماس إلى الواجهة، حيث أشار إلى الدور الذي تلعبه خارجيات المجت?ع البنيوية كالاقتصاد والسياسة، فهي برأيه تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين باستعمار العالم المعيش، وهو ما تؤكده إلى حدّ ما تلك الحوارات عبر شبابيك الهاشتاغ، والتي لا يكاد أصحابها غالباً يتخلون عن انتماءاتهم الأيدولوجية، أو مؤثرات بيئتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما دفع بهابرماس إلى أن يؤسس مستفيداً من عالم الاجتماع الشهير » إيمانويل كانت » لأخلاقيات المناقشة ؛ بهدف تجاوز الاختلافات الثقافية والسياسية المعقدة التي تتسم بها المجتمعات الإنسانية في الوقت المعاصر، ساعياً لضمان ما لا يُضمن في واقعنا ا?مُعاش من مساواة متبادلة تبيح الحق في الكلام والتعبير عن الرأي لكل فرد، وممارسته كفعل بغض النظر عن اختلاف الهويات والثقافات، الأمر الذي يدفع للتساؤل مرة أخرى وبقوّة حول مصداقية تلك الهاشتاجات التي تتصدر تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي، وحول جدواها في تحقيق الفعل والتغيير على أرض الواقع ، وإلّا فإنّ فعلها لا يتجاوز فعل المفرقعات بين أيدي الأطفال، دويّ هائل دون أثر ملموس، وهو ما يؤكد على ضرورة تبيّن مصادر تلك الهاشتاجات والمُطلقين لها بداية، ومن ثمّ تبيّن مقدار أثرها على تشكيل الرأي العام، فعلى مبدأ » ثم أنا ?ا عنديش تلفزيون » يحق للمتابع أن يتساءل حول عدد الأفراد الذين يملكون حسابات فعلية وحقيقة على تويتر، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، وعن مستوى تفاعلاتهم الحقيقية مع القضايا التي تُطرح عبر شبّاك الهاشتاغ، ليكون الواقع واتجاه التغيير الذي طرأ عليه مصدر القرار القاطع بفاعلية الهاشتاغ في تشكيل وتوجيه الرأي العام، فليس كلّ تغيير نحو الأفضل بالضرورة، وليس الأفضل هو الصحيح والحقّ حيث تختلف المرجعيات في ثقافات البشر.
 
إذاً وفي خِضمّ أجواء الصخب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصاعد دور الهاشتاغ في إثارة النقاش والحوارات داخل البيئة الرقمية، فإنّ الإعلام التقليديّ مطالب أكثر من أيّ وقت مضى لإثبات وجوده كمصدر مهنيّ للمعلومة، كما أنه مطالب بالاقتراب أكثر من معاناة الأفراد، والتدقيق في اهتماماتهم، وتلمّس احتياجاتهم، ونقلها إلى مجهر الرأي العام، وتشريحها بحرفية عالية ومصداقية دون انحياز، ليكون هو مصدر الفعل الحقيقي، ووسيلة التغيير الصادقة، ولا ضرر في أن يكون الهاشتاغ إحدى وسائله إذا ما اتصف بالحرية المدروسة، كما أنّ تعليم النش? أخلاقيات الحوار المبني على الصدق، و الحرية المسؤولة، واحترام الآخر، وتمليكهم أسس النقد العلميّ، وكيفية التمييز بين الغثّ والسمين ؛ أصبحت ضرورة أمنية في وقت صارت فيه جلسات النقاش مفتوحة للجميع، وصارت فيه المعلومة أحياناً عملية تجارية Business تخضع لمعايير الربح والخسارة.