الغد-رؤى أيمن دويري
نستيقظ على زلزال في طرف من الأرض، وعلى أخبار الحرب في طرف آخر. وتمر أمامنا المجاعات، قضايا الرأي العام، الانهيارات الاقتصادية، والكوارث الإنسانية المتلاحقة. وجوه الضحايا الذين لم نلتق بهم قط تسكن ذاكرتنا، تطارد وعينا، تخزن في عقولنا كما لو أننا عشنا مصائبهم عن قرب.
لقد تغير شكل الواقع. لم نعد ننتظر نشرات الأخبار، بل أصبحت المأساة تتقدم نحونا بخوارزميات دقيقة تعرف تماما كيف تجذب انتباهنا. أصبحنا نستهلك المعاناة يوميا، نمر على مئات القصص المصورة، نتفاعل، نشارك، ثم ننتقل إلى الخبر التالي دون أن نمنح أنفسنا فرصة لهضم ما رأيناه.
جيل يعرف أكثر مما ينبغي، يرى أكثر مما يحتمل، وينفتح على العالم بأسره دون أن يجد فرصة حقيقية للانغلاق على ذاته للحظة راحة.
وهنا يتقدم سؤال لا يمكن تجاهله: هل هذا جيل محظوظ بالوصول إلى كل شيء؟ إلى الحقيقة المجردة، والصورة الحية، والمعلومة المباشرة؟ أم جيل يسحق تحت ثقل هذا الانفتاح؟ تحت وطأة المعرفة التي لا تتوقف، والتعرض المتواصل للألم الإنساني بصورته الخام؟
- جيل الإنترنت والمعرفة المكثفة
لم يعرف التاريخ جيلا كجيل اليوم، يعيش وسط طوفان من المعلومات والمعرفة المتدفقة بلا توقف. فمن الكتاب الورقي والموسوعات المغلقة، إلى مقاطع الفيديو القصيرة على تيك توك، والتغريدات السريعة على تويتر، والمنشورات التفاعلية على إنستغرام تبدل شكل المعلومة، وأصبح الوصول إليها لحظيا، وبلا قيود.
المعرفة لم تعد حكرا على المتخصصين، ولا محصورة في قاعات الدراسة أو رفوف المكتبات، بل تحولت إلى مادة يومية تستهلك كما يستهلك الطعام والشراب. وبات من الطبيعي أن تجد شابا في عمر 17 عاما يتحدث بثقة عن السياسة العالمية، الأوبئة، تغير المناخ، الاضطرابات النفسية، وقضايا حقوق الإنسان.
ليس فقط لأنه درسها، بل لأنه يراها ويتابع تطوراتها بشكل لحظي، ويشارك في النقاش حولها كفرد فاعل داخل مجتمع رقمي مفتوح.
لكن هذه الوفرة المعرفية لم تأت دون ثمن. في الماضي، كان الخبر يحتاج أياما حتى يصل إلى المتلقي وإن وصل. أما اليوم، فقد أصبح كل حدث عالمي جزءا من روتيننا اليومي. بضغطة واحدة، نعرف تفاصيل الجرائم لحظة وقوعها، نشاهد الكوارث الطبيعية وهي تحدث، نتابع الانفجارات في بث مباشر، ونقرأ آراء الناس وردود أفعالهم، وكأننا في قلب الحدث.
لم يعد هذا الجيل مجرد متلق صامت، بل أصبح شاهدا دائما على كل شيء. يشاهد، يتفاعل، يحلل، وفي كثير من الأحيان يجبر على رؤية أكثر مما يود، ويحمل في ذاكرته مشاهد لم يكن مهيأ لتحملها.
- الأثر النفسي على الشباب
تؤكد الخبيرة النفسية عصمت حوسو أن التعرض المستمر واليومي للأحداث العالمية، خاصة تلك المرتبطة بالصراعات والكوارث، يؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر لدى جميع الفئات العمرية، وبشكل خاص عند الشباب والشابات. ومع التطور التكنولوجي، تراجعت جودة التفكير وظهرت أشكال من الوعي الزائف، ما فاقم من هذا التوتر.
وترى أن الشباب العربي تحديدا يعاني من ازدواجية في الوعي نتيجة التعرض المكثف للأحداث دون القدرة الكافية على التحليل أو التوازن. لذا، لا بد من البقاء على اتصال بالواقع، دون الانفصال عنه أو الغرق فيه.
- الضغط النفسي الناتج عن الوعي الزائد
في زمن المعرفة الفورية والانفتاح الكلي، لم يعد الوعي نعمة خالصة. بل بات عبئا نفسيا يثقل كاهل الإنسان المعاصر، خاصة في فئة الشباب، الذين ولدوا في عصر لا يسمح بالانفصال عن العالم ولو للحظة. من هنا ظهرت مفاهيم جديدة في علم النفس الحديث، أبرزها "القلق الوجودي" و"إرهاق التعاطف"، كمصطلحات تعكس الأثر العميق لهذا التورط المستمر في أحداث العالم.
- التأثيرات العصبية والنفسية لمتابعة الكوارث
تشير حوسو إلى أن المتابعة المستمرة للمآسي والكوارث تؤثر سلبا على الجهاز العصبي وتفقد الإنسان الشعور بالأمان، ما يجعله يشعر كأنه يعيش في "شريعة غاب" بلا قانون أو عدالة. وتضيف أن تكرار المشاهد الصادمة يؤدي إلى اعتياد العقل عليها، مما يخلق نوعا من التبلد العاطفي وفقدان الاستجابة الطبيعية تجاه المعاناة.
- إرهاق التعاطف: سمة الجيل الحالي؟
تقول حوسو إن الأجيال الجديدة باتت تعاني من ما يسمى بـ"إرهاق التعاطف"، وهو نتيجة الاستنزاف العاطفي الناتج عن متابعة مستمرة للأخبار المؤلمة دون أخذ مسافة نفسية كافية. وتوضح أن فقدان التعاطف هو مؤشر على وجود خلل في التكوين النفسي، لأنه سمة إنسانية جوهرية، لكنها في الوقت نفسه تحتاج لإدارة واعية حتى لا تتحول إلى عبء.
- الفرق بين التعاطف الصحي والتعاطف المنهك
تشرح حوسو أن التعاطف الصحي هو ما يقوم على الوعي بالذات والقدرة على التوازن، أما التعاطف المنهك فهو عندما ينشغل الفرد بمعاناة الآخرين لدرجة إهمال ذاته واحتياجاته النفسية. وهنا تؤكد: "وضع الذات أولا ليس أنانية، بل وعي وحماية للنفس"، مشيرة إلى أن الإنسان حين يعرف نفسه جيدا ويعتني بها يكون أكثر قدرة على تقديم التعاطف بشكل سليم للآخرين.
- هل الوعي لعنة؟
في زمن تتدفق فيه المعرفة بلا توقف، ويقف فيه الإنسان مكشوفا أمام كل ما يجري على سطح الكوكب، يطرح سؤالا وجوديا ثقيلا: هل الوعي نعمة، أم لعنة؟
يقول الفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي: "الوعي مرض، كلما ازداد الوعي، ازداد الألم".
وهو قول لم يعد مجرد تعبير فلسفي، بل تجربة معيشة لأجيال اليوم. حين يصبح الإنسان أكثر وعيا بمشكلات العالم، وأكثر إدراكا لتعقيداته وظلمه، تتسع رؤيته، نعم، لكنها في المقابل تتعمق في الألم، في القلق، وفي العجز.
- وفرة المعرفة وسرعة تداولها
تعتبر حوسو أن المعرفة سلاح ذو حدين، فهي أساس النمو العقلي، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تؤدي إلى الإرهاق المعرفي إذا لم تدار بشكل واع. تقول إن انتشار المعلومات وسهولة الوصول إليها جعلا الإنسان مهددا بـ"الفوضى الدماغية" إذا لم يفلتر ما يستقبله.
المعرفة الزائدة ليست دائما نعمة، إذ قد تؤدي إلى ارتباك داخلي يعوق اتخاذ القرار ويضعف الاستقرار النفسي. ترى حوسو أن في ظل انتشار الجهل وظاهرة القطيع، أصبح الإنسان الواعي الذي "يقرأ ما بين السطور" نادرا، وهو من يستطيع التمييز بين الواقع وبين ما يراد له أن يراه.
في علم النفس، يشار إلى هذه الحالة بما يعرف بـ"تضخم الإدراك مقابل ضآلة القدرة"؛ أي أننا نعرف الكثير، نحلل، نتفهم، نشعر ولكن لا نمتلك الأدوات الكافية للتغيير، ولا القدرة النفسية على تحمل كل ما يصلنا من معاناة. وهنا تظهر الحاجة لما يمكن وصفه بـ"الفلترة النفسية"، أي أن يتعلم الإنسان كيف يختار ما يدخل إلى وعيه، حفاظا على توازنه الداخلي.
- كيف يفلتر الفرد ما يدخل إلى وعيه؟
برأي حوسو الفلترة المعرفية تبدأ من الوعي بالمصادر والقدرة على قراءة الرأي والرأي الآخر. في ظل تدفق المعلومات وانتشار الإعلام الرقمي، أصبح من الضروري أن يطور الفرد مهارات التحليل والمقارنة ليرى الواقع كما هو، لا كما يصور له.
وتقترح حوسو اتباع إستراتيجيات نفسية تساعد في الحفاظ على التوازن، من بينها تقنين المتابعة الإخبارية، وتحقيق مسافة نقدية بين المتلقي والمحتوى، دون الانفصال التام عن الواقع.
تؤكد حوسو أن فن التغافل الواعي يعتبر من الآليات الدفاعية النفسية السليمة. التغافل هنا لا يعني الجهل أو الغفلة، بل هو قرار داخلي مدرك بالابتعاد عن بعض التفاصيل من أجل حفظ السلام النفسي أو العلاقات الاجتماعية. لذا، عندما يكون التغافل نابعا من وعي وحرص على الذات، فهو سلوك صحي يحمي من الاستنزاف ويعزز الاستقرار.
في خضم هذا الطوفان من المعلومات، تبدو مهارة التغافل ضرورة نفسية، لا علامة على الضعف أو الإنكار. التغافل ليس جريمة، بل في كثير من الأحيان هو فعل نجاة.
أن تعرف متى تنأى بنفسك، متى تغلق هاتفك، متى تكف عن التحديق في الشاشات، هو وعي من نوع آخر.
ليس رفضا للواقع، بل اختيارا متزنا لحماية الذات.
نعم، يملك هذا الجيل قدرة غير مسبوقة على الاطلاع، لكن لا بأس أن نختار ما نستهلك، وأن نفلتر ما يدخل إلى وعينا، تماما كما نملأ كوب الماء: بما يكفينا، لا بما يغرقنا.
في النهاية، ربما تكون الراحة أحيانا في أن نمسك بالوعي بلطف، لا أن نحمله كله دفعة واحدة.