الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
أبريل لونغلي ألي* - (فورين أفيرز) 18/12/2025
بعد تضرُّر "حماس" من الحرب بشدة، وتعرّض "حزب الله" في لبنان لقطع الرأس إلى حدّ كبير، وسقوط نظام بشار الأسد في سورية، ونأي الميليشيات الشيعية في العراق بنفسها عن المواجهة مع إسرائيل، أصبحت بقية مكوّنات "محور المقاومة" الذي كانت تقوده إيران ضعيفة إلى حدّ كبير. لكنّ الحوثيين خرجوا أكثر جرأة وتمكينًا بسبب حرب غزة التي ساعدت قادتهم على تقوية النواة الأيديولوجية للجماعة.
كان يفترض أن تكون عودة الهدوء إلى البحر الأحمر -وربما إلى اليمن أيضًا- من بين أهم التداعيات الإقليمية الأوسع لوقف إطلاق النار في غزة الذي بدأ في تشرين الأول (أكتوبر). وفي الحقيقة، أوقف الحوثيون -وهم جماعة مسلحة تسليحًا كثيفًا تسيطر على شمال اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء، وتتحالف مع "حماس" وإيران- هجماتهم على الملاحة التجارية في البحر الأحمر وضد إسرائيل منذ بدء الهدنة. كما بدا أن اتفاقًا سابقًا كان قد أُبرم بوساطة عُمانية بين الحوثيين والحكومة الأميركية أسهم في تهدئة التهديد الحوثي المباشر للأصول الأميركية في الممر المهم للشحن. وداخل اليمن، صمدت هدنة هشّة عمرها ثلاث سنوات ونصف السنة في الحرب الأهلية بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دوليًا. وعلى الرغم من أن الحوثيين لم يُهزموا، بدا أن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن الوضع في البلد قد هدأ، وأن بإمكانهم تحويل انتباههم إلى ساحات أخرى.
لكنّ هذا الهدوء النسبي شرع في التلاشي بعد أقل من شهرين. في مطلع كانون الأول (ديسمبر)، أطلق انفصاليون جنوبيون يمنيون حملة كبرى للسيطرة على أجزاء واسعة من حضرموت، وهي منطقة منتجة للنفط على الحدود مع السعودية، وعلى محافظة المهرة المتاخمة لسلطنة عُمان. ويشكل الهجوم الذي نفّذه "المجلس الانتقالي الجنوبي" -وهو كيان يُعتبر جزءًا من الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، لكنه يدعو إلى استقلال جنوب اليمن- تحوّلًا زلزاليًا في ميزان القوى داخل البلاد. من جهة، يحظى "المجلس" بدعم دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أثار توسعه الجريء توترات جديدة مع المملكة العربية السعودية التي تدعم فصائل منافسة داخل الحكومة، وترى في هذا الاستيلاء تهديدًا محتملًا لأمنها القومي. ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن الحوثيين يغلب أن يتخذوا من هجوم "المجلس الانتقالي الجنوبي" ذريعة للقيام بتحركات أوسع.
بالتوازي مع تطورات حملة "المجلس الانتقالي الجنوبي"، تعهّد الحوثيون بتوسيع سيطرتهم على مناطق إنتاج النفط والغاز في شرق البلاد. وكانوا قد عملوا بلا كلل، بمساعدة من إيران ودول أخرى، على توسيع ترسانتهم من الأسلحة التقليدية المتقدمة؛ كما زادوا الإنتاج المحلي للأسلحة، مع تطوير قدرة على تجميع صواريخ باليستية وتصنيع طائرات مسيّرة قصيرة المدى بشكل مستقل. وبالإضافة إلى ذلك، تواصل الجماعة التأكيد بأفعالها وخطابها على رغبتها في السيطرة على اليمن بأكمله، والاستمرار في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية والإمارات. وإذا تعثّر وقف إطلاق النار في غزة، فإن الحوثيين يبدون مستعدين لاستئناف هجماتهم في البحر الأحمر. وبما أنهم أصبحوا يدركون مدى فاعلية تلك الحملة، فإنهم قد يعيدون إطلاقها مستقبلًا لأسباب أخرى.
ينطوي تجاهل الولايات المتحدة لليمن على مخاطر جسيمة. وقد اكتفت إدارة ترامب، حتى الآن، بفرض عقوبات على الحوثيين، وحماية الهدنة الثنائية بين أميركا والجماعة، والتعويل على أن تتولى إسرائيل وشركاء الولايات المتحدة في الخليج معالجة بقية القضايا بأنفسهم. كما انسحبت الإدارة إلى حدّ كبير من دعم الحكومة اليمنية ومن تقديم قيادة دبلوماسية لإنهاء الحرب الأهلية. لكنّ غياب استراتيجية أميركية أوسع ربما يجعل الضغط المالي على الحوثيين يأتي بنتائج عكسية. وكانت قيادة الحوثيين قد ألمحت، قبل تحرك "المجلس الانتقالي الجنوبي" في كانون الأول (ديسمبر)، إلى أنها قد تسعى إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي أو ابتزاز تنازلات مالية من السعودية للحصول على موارد إضافية. والآن، فقد جعل الاضطراب في الجنوب البلد أكثر قابلية للاشتعال، وهو يهدد بإعادة إشعال صراعٍ لطالما خدم مصالح الحوثيين. وستكون لأي عودة إلى حرب شاملة ارتدادات واسعة في منطقة الخليج والبحر الأحمر.
محور التحدّي
مع انقشاع غبار حرب إسرائيل في غزة، يبرز الحوثيون كاستثناء لافت. بعد تضرُّر "حماس" بشدة، وتعرّض "حزب الله" في لبنان لقطع الرأس إلى حدّ كبير، وسقوط نظام بشار الأسد في سورية، ونأي الميليشيات الشيعية في العراق بنفسها عن المواجهة مع إسرائيل، أصبحت بقية مكوّنات "محور المقاومة" الذي كانت تقوده إيران ضعيفة إلى حدّ كبير. وعلى النقيض من ذلك، خرج الحوثيون أكثر جرأة وتمكينًا بسبب حرب غزة التي ساعدت قادتهم على تقوية النواة الأيديولوجية للجماعة، وتهميش البراغماتيين، وتعزيز قناعة أنصارهم بأنهم في مهمة دينية مقدّسة لتحرير فلسطين وتقويض نظام إقليمي تهيمن عليه الولايات المتحدة وإسرائيل.
جنى الحوثيون مكاسب ملموسة من هذا التحدّي. من خلال البقاء في حالة تعبئة حربية، تفادوا المساءلة عن تفاقم الفقر وفشلهم في دفع رواتب موظفي القطاع العام في المناطق التي يسيطرون عليها. كما استغلوا الصراع لقمع خصومٍ كان يُنظر إليهم كأعداء، وتضييق أي هامش للاعتراض، وتشديد قبضتهم على السلطة. وفي الوقت نفسه، عزّز صراعهم المميز مع إسرائيل عمليات التجنيد العسكري، بما في ذلك تجنيد الأطفال، وسهّل جهودهم لتدريب جيل جديد وتلقينه أيديولوجيًا. واعتبارًا من العام 2024، قُدِّر عدد مقاتلي الحوثيين بنحو 350 ألف مقاتل.
تفاقم التهديد الحوثي بفعل تنامي القدرات العسكرية للجماعة. في المراحل الأولى من حرب غزة، كانت صواريخ الحوثيين في معظمها عاجزة عن الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية؛ لكنها أصبحت بحلول أيار (مايو) 2025 قادرة على إصابة مطار بن غوريون قرب تل أبيب. وفي أيلول (سبتمبر) 2025، تمكنت طائرات مسيّرة حوثية أيضًا من الإفلات من أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وأدت إلى إصابة أكثر من 20 شخصًا في إيلات وضرب مطار رامون القريب. كما أصابت صواريخ حوثية ميناء ينبع، وهو ميناء نفطي سعودي رئيسي يبعد نحو 620 ميلًا عن الحدود اليمنية. وفي الوقت نفسه، منحت حرب غزة الحوثيين خبرة عملياتية ثمينة أتاحت لهم تحسين دقة الاستهداف واختبار أسلحة جديدة، بما فيها صواريخ باليستية مزوّدة بذخائر عنقودية.
لتوسيع ترسانتها، عمدت الجماعة إلى تنويع سلاسل إمدادها، وأقامت علاقات مع مجموعة من خصوم الولايات المتحدة، ومنهم الصين وروسيا إلى جانب إيران. كانت إيران تزود الحوثيين منذ سنوات بالأسلحة التقليدية وبالتدريب. وقد ضاعفت هذا الدعم مع تراجع أقسام أخرى من "محور" نفوذها الإقليمي الذي طالما تباهت به. لكنّ الحوثيين أصبحوا اليوم يستوردون أيضًا مكوّنات مزدوجة الاستخدام ومواد بمواصفات عسكرية من الصين لاستخدامها في التصنيع المحلي للأسلحة. وقد فرضت وزارة الخزانة الأميركية في أيلول (سبتمبر) عقوبات على 32 شخصًا وكيانًا مرتبطين بالحوثيين، من بينهم عدة أطراف مقرّها في الصين، بتهم جمع الأموال بصورة غير مشروعة، والتهريب، وشراء الأسلحة.
في المقابل، ووفقًا لصحيفة "وول ستريت جورنال"، شاركت روسيا بيانات استهداف من خلال "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني لمساعدة الحوثيين على ضرب سفن غربية. كما أوصلت موسكو النفط للحوثيين عبر ميناء الحديدة اليمني. وفي الصومال، قدّم الحوثيون أسلحة وتدريبًا للجماعة الجهادية السنية "حركة الشباب" مقابل أموال نقدية وإمكانية إقامة شراكة لتعطيل الملاحة في خليج عدن. كما تحوّل الصومال أيضًا إلى محطة عبور مهمة للأسلحة التي يتم تهريبها إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
أوضح زعيم الحوثيين، عبد الملك الحوثي، أن طموحات الجماعة لا تتوقف عند حدود اليمن. في الواقع، يشكل توحيد العالم الإسلامي ضد النفوذ الغربي وإسرائيل جزءًا من منظومة المعتقدات الأساسية للحوثيين منذ نشأتهم في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة -وهي مهمة تضاعف زخمها إلى حدّ كبير بفعل حرب غزة. وقال الحوثي إن جولات إضافية من القتال مع إسرائيل "حتمية"، وإن السعودية والإمارات تعملان كدُمى في المشروع الإقليمي الأميركي-الإسرائيلي، وإنهما تخونان القضية الفلسطينية. وهو يتباهى اليوم بأن حركته تُدرّب أكثر من مليون "مجاهد"، وأن اليمن الخاضع لسيطرة الحوثيين يتصدّر العالم العربي في الإنتاج والتصنيع العسكريين. وعلى الرغم من أن الادعاءات المتعلقة بإنتاج الأسلحة لا أساس لها بوضوح، فإنها تُستخدم لتعزيز الصورة الذاتية للحوثيين بوصفهم القوة الأولى للمقاومة العربية.
ضغط بلا سياسة
مع صعود نجمهم، تلقّى الحوثيون بعض الضربات أيضًا. فقد تسببت عملية "راف رايدر"، حملة القصف المكثف التي استمرت 52 يومًا والتي أطلقتها إدارة ترامب في آذار (مارس)، في تدمير العديد من مستودعات الأسلحة ومرافق التصنيع التابعة للحوثيين، ولو أن الحجم الكامل للأضرار يظل غير واضح. كما أن قرار الولايات المتحدة هذا العام إعادة تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية أجنبية فرض ضغوطًا اقتصادية على المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بقطع وصولها إلى النظام المصرفي الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، منذ صيف العام 2024، ألحقت الغارات الإسرائيلية أضرارًا جسيمة بالمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وقد تسببت الغارات في إغلاق المطار الدولي الوحيد في الشمال، وتدمير جزء كبير من ميناء الحديدة، وإلحاق أضرار واسعة بالبنية التحتية الكهربائية في اليمن. كما استهدفت إسرائيل قيادة الحوثيين بنجاح نسبي. في آب (أغسطس) أدت ضربة إسرائيلية إلى مقتل رئيس الوزراء وأعضاء آخرين في الحكومة التي يديرها الحوثيون في صنعاء، ولم يكن أيٌّ منهم من المنظّرين الأساسيين للجماعة. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، أكّد الحوثيون اغتيال رئيس أركانهم الذي كان استراتيجيًا عسكريًا مهمًّا. وعلى الرغم من أن هذه الهجمات حققت نجاحًا محدودًا في الوصول إلى كبار قادة الجماعة، فإنها دفعتهم إلى العمل سرًا، وأبطأت اتصالاتهم، وأثارت إشاعات عن احتمال مقتل آخرين أيضًا.
لكن المقاربة العامة التي تنتهجها واشنطن تجاه اليمن تغصّ بالتناقضات. على سبيل المثال، وفّرت الهدنة الثنائية التي أبرمتها الإدارة مع الحوثيين في أيار (مايو) مخرجًا سريعًا من عملية "راوف رايدر" التي كانت قد كلّفت أكثر من مليار دولار واستنزفت أصولًا عسكرية ثقيلة كانت مطلوبة في ساحات أخرى. لكنّ هذه الهدنة لم تمنع الحوثيين من مواصلة الهجمات على أهداف غير أميركية في البحر الأحمر، ولا من إطلاق مزيد من الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه إسرائيل. كما أنها لم توفّر استراتيجية بعيدة المدى لحماية المصالح الأميركية في البحر الأحمر أو الخليج.
بل على العكس: من خلال تمكين واشنطن من الانكفاء سياسيًا وعسكريًا عن اليمن، منحت الهدنة الحوثيين فرصة لتصعيد معاركهم ضد خصومهم الداخليين والإقليميين بكلفة أقل. وإلى جانب ذلك، علّقت إدارة ترامب معظم المساعدات الإنسانية لليمن، بما في ذلك في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية التي تزعم الولايات المتحدة أنها تدعمها. وفي بلد يحتاج فيه 24 مليون شخص -أي غالبية السكان- إلى مساعدات إنسانية، ويعاني أكثر من 14 مليونًا من نقص حادّ في الاحتياجات الأساسية، يشكل هذا القرار ضربة هائلة.
في الوقت نفسه، من خلال تشديد العقوبات وإغلاق القنوات الدبلوماسية التي كانت تتيح للحوثيين مخارج تفاوضية، أغلقت الإدارة فعليًا أي أفق لاتفاق سلام تفاوضي في الوقت الراهن. ولم يعد لدى الولايات المتحدة مبعوث مخصّص لليمن، في مؤشر واضح على مدى تراجع موقع هذا البلد على سلّم أولويات واشنطن. كما أن الإدارة لا تدعم العودة إلى الصيغة التي كانت قائمة قبل حرب غزة لتسوية الأزمة اليمنية، والتي كانت تقوم على موافقة الحوثيين على وقف إطلاق النار والانخراط في مسار سياسي مقابل حوافز مالية، من بينها دفع رواتب موظفي القطاع العام. ومع ذلك، يبقى عدد العاملين في واشنطن على إيجاد مسار بديل للمضي قدمًا محدودًا للغاية.
التدافع الجديد على النفوذ
مع الاضطرابات الجديدة في الجنوب، قد تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها في الخليج أزمة أوسع نطاقًا في القريب. من الممكن أن تعمل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على الحدّ من التداعيات الناتجة عن سيطرة "المجلس الانتقالي الجنوبي" على حضرموت، بالاتفاق على جهد مشترك لاحتواء التوترات داخل الحكومة اليمنية. وقد يفضي مثل هذا الاتفاق إلى جبهة أكثر توحّدًا في مواجهة الحوثيين، ما يتيح إعادة إحياء البحث في تسوية سياسية في اليمن، أو يدفع هذه القوى إلى محاولة انتزاع أراضٍ من الحوثيين في الشمال قبل أي محادثات محتملة. وقد أعلن رئيس "المجلس الانتقالي الجنوبي"، عيدروس الزبيدي، أن "الهدف التالي يجب أن يكون صنعاء، سِلمًا أو حربًا". وسيكون أي اتفاق يسمح لقوات "المجلس" بدعم المقاتلين على طول ساحل البحر الأحمر وفي مدينة مأرب لاستعادة الشمال من الحوثيين بالغ الصعوبة، وسيستدعي على الأرجح ضمانات للحكم الذاتي الجنوبي، وربما إجراء استفتاء في المستقبل. لكن كل ذلك يظل غير ممكن ما لم يتم حلّ المأزق الفوري في حضرموت بطريقة تراعي المخاوف الأمنية للسعودية.
قد يكون الوقت آخذًا في النفاد. كما أن احتمال اندلاع قتال بين فصائل الحكومة نفسها قائم فعليًا، وهو ما قد يساعد الحوثيين على تحقيق مزيد من المكاسب العسكرية أو السياسية. وفي حال أقدم "المجلس الانتقالي الجنوبي" على إعلان الاستقلال -وهو ما يبدو حريصًا على تجنبه في الوقت الراهن لأن قلة من الدول ستمنحه اعترافًا- فإن ذلك قد يدفع القوى الشمالية إلى إعادة الاصطفاف ضده.
حتى إذا لم تؤدِّ حملة "المجلس الانتقالي الجنوبي" إلى إشعال حرب أوسع، فإن الحوثيين سيجدون أنفسهم قريبًا مضطرين إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية الواقعة عليهم. ومن المرجّح أن يعني ذلك الاستيلاء على موارد إضافية داخل اليمن -مثل السيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط شرق صنعاء- أو إرغام السعودية على تقديم تنازلات مالية جديدة. وقد هدد الحوثيون الرياض علنًا، مطالبين المملكة باتخاذ خطوة حاسمة لإنهاء الحرب الأهلية، ورفع القيود عن الموانئ والمطارات، ودفع تعويضات حرب عن الأضرار التي خلّفتها الغارات الجوية السعودية على البلاد بين العامين 2015 و2022. كما أن خطاب الحوثيين، بما فيه إعادة نشر مقاطع مصوّرة لعملياتهم السابقة داخل الأراضي السعودية وللهجمات على منشآت "أرامكو" النفطية، يؤكد استعدادهم لاستخدام القوة.
وفي ظل تركيز السعودية على أولوياتها الداخلية وتزايد الشكوك بشأن مظلة الأمن الأميركية، قد ترضخ الرياض فعلًا لهذا الضغط. وعلى الرغم من أن أي محاولة حوثية للسيطرة على مزيد من الأراضي ستواجه مقاومة يمنية داخلية، فإن المملكة قد تتردد في مساعدة هذه القوى المناهضة للحوثيين خشية تجدّد الهجمات عليها. وبدلًا من ذلك، مع إضعاف موقع الحكومة اليمنية بفعل تحركات "المجلس الانتقالي الجنوبي" في الجنوب، قد يسعى الحوثيون إلى تحقيق مكاسب إقليمية، مثل مضاعفة جهودهم لاستمالة زعماء القبائل المتحالفة مع الحكومة في محيط مأرب للانشقاق والانضمام إلى صفوفهم. ومن شأن كل واحد من هذه المسارات أن يوفّر للحوثيين موارد إضافية لتسليح أنفسهم لمعارك مستقبلية مع الولايات المتحدة وشركائها، فضلًا عن تقليص أي فرصة للتوصل إلى تسوية سياسية جامعة في اليمن.
تعهّد القادة الإسرائيليون بمعاقبة قيادة الحوثيين على هجماتهم الجريئة ضد إسرائيل، كما أنشأت الحكومة الإسرائيلية وحدة استخباراتية جديدة مخصّصة لليمن. وإذا انهار وقف إطلاق النار في غزة، فستُستأنف المواجهات بين الحوثيين وإسرائيل، وهو ما قد يشتّت الحوثيين عن جبهات أخرى ويوفّر فرصًا عسكرية محتملة لخصومهم اليمنيين. ومع ذلك، لا تستطيع واشنطن الاعتماد على إسرائيل للتعامل مع التحدي الحوثي.
يبقى الحوثيون بعيدين جغرافيًا عن إسرائيل، ومتحصنين بقوة في تضاريس جبلية تشبه أفغانستان إلى حدّ كبير. وكما أظهرت الحملات السعودية والأميركية سابقًا، لا يمكن هزيمة الجماعة بالقصف الجوي وحده. وبالإضافة إلى ذلك، تحظى إسرائيل بشعبية متدنية للغاية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وتنطوي أي ضربات إسرائيلية إضافية، خاصة تلك التي تستهدف البنية التحتية المدنية، على خطر تعبئة اليمنيين العاديين ضد عدو خارجي مكروه. وحتى لو تمكّنت إسرائيل من تنفيذ اغتيالات إضافية رفيعة المستوى، فقد يؤدي ذلك إلى بروز قيادة حوثية أكثر تشددًا في صنعاء، أو إلى نشوب صراع جديد على السلطة يزعزع استقرار المنطقة بطرق جديدة.
من أسفل إلى أعلى
تبقى رغبة واشنطن في تجنّب التورط في حرب مكلفة في اليمن مفهومة. فقد تسبب القصف الأميركي المكثف لقرابة الشهرين في الربيع الماضي بإيلام بالحوثيين، لكنه فشل في تغيير سلوكهم أو تخفيف قبضتهم على السلطة. كما تُبرز الحملة الجديدة لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" اتساع الصدوع داخل التحالف الداعم للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، والطبيعة المعقّدة والمتغيرة على نحو مربك للسياسة الداخلية في البلاد. لكنّ الموقع الاستراتيجي لليمن على ممر البحر الأحمر وقربه من حلفاء واشنطن الرئيسيين في الخليج يعني أن إدارة ترامب لا تستطيع تحمّل حدوث فراغ سياسي في هذا الملف.
لمنع اندلاع مواجهة أوسع، سيتعيّن على الولايات المتحدة إعادة تخصيص اهتمام جادّ باليمن. ويجب على الإدارة، على وجه السرعة، الضغط على السعودية والإمارات لخفض التصعيد في الجنوب بسرعة، والتوصّل إلى مقاربة مشتركة تجاه اليمن. وسيكون ذلك شرطًا مسبقًا للتعامل بفاعلية مع الحوثيين. وفي الوقت نفسه، يتعيّن على واشنطن أن تبذل جهودًا أكبر لمساعدة القوات اليمنية المتحالفة مع الحكومة على الصمود على خطوط الجبهة الحيوية، بما في ذلك في مأرب وعلى طول ساحل البحر الأحمر، بهدف دفع الحوثيين إلى تقديم تنازلات. كما يمكن أن يلعب تعزيز الضمانات الأمنية الأميركية للسعودية والإمارات دورًا مهمًا في هذا السياق، من خلال تقديم تطمينات بأن الولايات المتحدة ستسهم في الدفاع عن أيٍّ من البلدين إذا تعرّض لهجوم من الحوثيين.
كما يترتب على واشنطن أن تجدّد دعمها لفتح مسار دبلوماسي مخصّص. ما يزال اليمن يعيش حالة حرب منذ أكثر من عشرة أعوام، وقد خلّف الثمن الهائل الذي دفعه السكان آثارًا ستطال أجيالًا كاملة. ولا يمكن معالجة مشكلة الحوثيين -ولا التحديات الداخلية الأوسع التي تواجه البلاد- بالضغط الاقتصادي أو حملات القصف التي تقودها أطراف خارجية وحدها. لا شك أن الضغط القسري مطلوب، وخاصة الضغط السياسي والعسكري على الأرض الذي يمارسه اليمنيون أنفسهم، لكن فتح مخارج تفاوضية وإعطاء الدبلوماسية دورها لا يقلان أهمية. وانطلاقًا من ذلك، ينبغي أن تنسّق الولايات المتحدة مع جميع أصحاب المصلحة الرئيسيين في اليمن -اليمنيين، والسعودية، والإمارات، وسلطنة عُمان، والأمم المتحدة، وغيرهم- لرسم ملامح تسوية مُحدَّثة.
تحتاج إدارة ترامب إلى إدراك أن النظام الأمني الإقليمي الذي تسعى إلى بنائه في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد غزة، والمتمحور حول الخليج، لن ينجح في حال انزلق اليمن إلى الفوضى. وفي غياب الانخراط الأميركي، من المرجّح أن تواصل السعودية والإمارات دعم جماعات متنافسة داخل الائتلاف الحكومي، مما يعمّق التوترات بين حليفين رئيسيين للولايات المتحدة (وهي توترات تتجلّى أيضًا في السودان)، ويوسّع الانقسامات بين اليمنيين، ويخلق فرصًا للحوثيين -بالإضافة إلى جماعات عنيفة أخرى مثل "القاعدة"- لاستغلال الوضع. وقد يفضي ذلك إلى تجدّد أنشطة الحوثيين في أنحاء المنطقة.
لن تكون إعادة الهدوء إلى اليمن مهمة سهلة، وسيحتاج هذا الجهد إلى أن يشمل ضمانات أمنية للبحر الأحمر ولجيران الخليج، فضلًا عن معالجة مطالب "المجلس الانتقالي الجنوبي" باستقلال الجنوب. وسيستلزم الأمر في نهاية المطاف إدماج الحوثيين في مسار سياسي، وإعادة توجيه اهتمامهم إلى الداخل من خلال منحهم مصلحة في قدوم مستقبل أفضل. وقد تتعثر أي صفقة في مواجهة تضارب المصالح المتعددة. لكنّ عدم القيام بأي شيء سيكون أسوأ بكثير، وسيكاد يضمن استمرار تسرب أزمات اليمن إلى أحد أهم ممرات الشحن في العالم وإلى الشرق الأوسط الأوسع. ولا تحتاج واشنطن إلى أن تقود الجهود في اليمن، لكن المخاطر كبيرة إلى حدّ لا يسمح لها بعدم الحضور.
*أبريل لونغلي ألي April Longley Alley: زميلة أولى في "معهد واشنطن"، وقد شغلت منصب المستشارة السياسية الأولى للمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن من العام 2020 حتى العام 2024.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Middle East’s Most Overlooked Threat