الغد-مايكل يونغ* - (إندبندنت عربية) 14 أيلول (سبتمبر) 2023
يتساءل المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان عن السبب في رفض بعض الأحزاب اللبنانية إجراء حوار لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد يكون السبب هو الخوف.
في معرض زيارة جان إيف لودريان إلى بيروت، يثير حيرته سؤال حول سبب العداء الذي أبدته كتل نيابية معارِضة، وعلى رأسها "القوات اللبنانية"، لفكرة إجراء حوار بين الفرقاء اللبنانيين حول ملف رئاسة الجمهورية. وجاء رد مجموعات المعارضة قويا على طلب لودريان الأخير بأن تحدد مواصفات المرشح الذي تريده. وأتبع رئيس "حزب القوات اللبنانية"، سمير جعجع، ذلك برفض الانخراط في حوار مع حزب الله، معتبرا أن لا فائدة من "تضييع وقت الناس سدى (على حوار لن يؤدي إلى شيء)".
منذ شهر آب (أغسطس) 2020، انخرطت فرنسا بقوة في الشؤون اللبنانية لدرجة أن النقاد اعتبروا أن الرئيس إيمانويل ماكرون فقد الكثير من مصداقيته في هذه العملية. وقد حضر الرئيس الفرنسي إلى بيروت عقب انفجار مرفأ بيروت في آب (أغسطس) 2020، وحاول إطلاق عجلة الإصلاح الاقتصادي من خلال المساعدة على تشكيل ما أسماه "حكومة بمهام محددة". ثم عاد إلى بيروت في أيلول (سبتمبر) والتقى بالقوى السياسية الرئيسة في البلاد، التي أكدت له جميعها، كما قيل، خلال عشاء في مقر إقامة السفير الفرنسي، بأنها تريد هذه المحصلة أيضا.
ولكن سرعان ما انهارت الأمور، عندما اعتذر مصطفى أديب الذي اختير لتشكيل الحكومة، عن عدم القيام بالمهمة التي أوكلت إليه. وألقت باريس باللوم في ذلك على الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن الأميركيين أقدموا خلال عملية تشكيل الحكومة على فرض عقوبات على وزيرَين سابقَين هما علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، مما أدى إلى شل كل المساعي. واعتبر الفرنسيون ذلك محاولة متعمدة من واشنطن لنسف مبادرتهم. فخليل هو معاون سياسي بارز لرئيس مجلس النواب نبيه بري، وفنيانوس كان أول مسيحي تشمله العقوبات الأميركية. وبعبارة أخرى، بدا أن واشنطن توسع قائمتها السوداء.
لدي بعض الشكوك حول دقة التفسير الفرنسي. فقبل فرض العقوبات بفترة وجيزة، التقيتُ مع شخصَين آخرَين بمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى آنذاك، ديفيد شينكر، الذي كنا نعرفه كصديق قبل توليه هذا المنصب. وخلال اللقاء، ألمح شينكر إلى فرض وشيك لعقوبات جديدة، مشيرا إلى أنها ستضم أفرادا لم تشملهم العقوبات من قبل. لكنه لم يذكر أي أسماء، وعندما سألته كيف سيؤثر ذلك على المبادرة الفرنسية، لم يبدُ أن شينكر يربط بين الخطوتين الأميركية والفرنسية، لكنه قال إن واشنطن لم تكن تحاول تقويض جهود باريس.
ربما لم يقدر الأميركيون فعلا كم ستؤثر العقوبات على مجريات الأمور، ولا كيف قد تستغلها الطبقة السياسية اللبنانية غير المتحمسة تجاه المبادرة الفرنسية. وإذا صح هذا الافتراض، وكان التفسير يتسم بحسن نية، فإنهم على الأقل أخطأوا إلى حد بعيد في قراءة الوضع في لبنان. وربما تعين على المسؤولين الفرنسيين أن يكونوا أكثر استعدادا لاحتمال العقوبات التي أخذتهم على حين غرة، بما أن شينكر كان يتواصل بانتظام مع نظرائه الفرنسيين. ولكن في الوقت نفسه قد يكون من السذاجة أيضا تجاهل واقع أن الأميركيين لم يكونوا في غاية الحرص على نجاح باريس في مبادرة سعت قبل كل شيء إلى ضمان موافقة حزب الله.
لم يكن ذلك كافيا لتثبيط عزيمة الفرنسيين. ومنذ ذلك الحين، استمر ماكرون في الاضطلاع بدور أساسي في الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى وضع لبنان على سكة الإصلاح، وإلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا لميشال عون. وبطبيعة الحال، الألفة تولد الازدراء، لذلك تزداد شكوك اللبنانيين وانتقاداتهم بصورة تدريجية لجهود الرئيس الفرنسي. لكن هذا لا يغير حقيقة أن لبنان يستفيد كثيرا من قيام رئيس غربي بارز باستثمار رصيده السياسي لصالح دولة يشوبها خلل بنيوي ولا يسعها أن تقدم شيئا يُذكر في المقابل.
بالتأكيد، أخطأ الفرنسيون في اقتراحهم الأول الرامي إلى إجراء مقايضة يتم بموجبها انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية مقابل اختيار نواف سلام رئيسا للحكومة. وما جعل هذا الاقتراح غير مقبول أكثر للأحزاب المارونية هو أن مثل هذه المعادلة تتركهم خارج النقاشات الدائرة حول الرئاسة، على الرغم من أن هذا المنصب مخصص للموارنة! وكان الذي طرح الاقتراح الأول بالمقايضة فعليا هو حزب الله نفسه، عن طريق الصحفي ابراهيم الأمين في مقال نشرته جريدة "الأخبار" في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022. وكان الهدف من طرح اسم سلام خطب ود السعودية. وبذلك، كان ما لمسه الموارنة فعليا هو تبني فرنسا لفكرة حزب الله بمعنى أن يختار الحزب رئيس الجمهورية بينما يختار السعوديون رئيس مجلس الوزراء. وعلى ما يبدو، لم يكترث أحد مطلقا لما يريده الممثلون السياسيون للموارنة.
ولكن، في وجه رفض الفرقاء الموارنة مجتمعين ترشيح فرنجية ودعمهم لترشيح جهاد أزعور بدلا منه، يبدو أن الفرنسيين تخلوا عن طرح فرنجية لرئاسة الجمهورية. ولا بد أن يكون حزب الله قد أدرك أيضا عجزه عن فرض فرنجية على الطائفة المارونية الرافضة له. وكان يجب أن يشكل ذلك أساسا سليما للحوار بين الفرقاء الموارنة وحزب الله. ولذلك، ليس مفاجئا أن يكون لودريان قد اقترح حوارا وطنيا حول مسألة الرئاسة قبل أن يغير ويدعو إلى إجراء مشاورات. لكن المعارضة حولت بطريقة ما هذا الاقتراح، معتبرة أنه يوازي الاستسلام غير المشروط (علما بأن فريقا واحدا على الأقل غير رأيه لاحقا، كما قيل. وبدلا من تفسير استعداد حزب الله للحوار بأنه مؤشر على أنه قد يكون منفتحا على التخلي عن ترشيح فرنجية، أصرت مجموعات المعارضة على أن موافقته على الحوار هي مجرد مخطط مدبر لفرض فرنجية. وحجتها في ذلك أن حزب الله لم يتخل بعد عن ترشيح فرنجية، ما يدل على سوء نية من جانبه. وهذه وجهة نظر عبثية. فالحزب سيتمسك بترشيح فرنجية إلى حين حصوله على عرض آخر مغرٍ في المقابل. وهذه أبسط قواعد المفاوضات.
يعيدنا ذلك إلى أحجية لودريان. كان فرقاء المعارضة من الجهات التي نجحت في منع انتخاب سليمان فرنجية، لذلك كان يفترض فيهم أن يدركوا أن الخطوة التالية ستكون التفاوض على مرشح تسوية. وهذا يقودنا إلى التساؤل عن أسباب تردد جعجع في خوض هذه النقاشات حاليا. ثمة احتمالات ثلاثة. الأول هو أنه يفضل التفاوض عن طريق طرف ثالث، مثل وليد جنبلاط، كي يحتفظ لنفسه بهامش من المناورة التكتيكية. والثاني هو أن جعجع يعلم أن خصوم فرنجية منقسمون، ولذلك قد يتيح الحوار لحزب الله استغلال خلافاتهم وتحقيق مكاسب كبرى. أما الاحتمال الثالث فهو أن جعجع يدرك أنه معزول، ويحقق بالتالي مكسبا من الإبقاء على الفراغ الرئاسي وشجب حزب الله، ما يتيح له نيل تأييد الموارنة والتعويض عن افتقاره إلى الحلفاء.
قد يكون كل سبب من هذه الأسباب على حدة، أو ربما جميعها، صحيحا. أو قد تكون جميعها غير صحيحة. ولكن لا تلوموا جان إيف لودريان أو الفرنسيين عموما على عدم التنبه لتناقضات محاوريهم اللبنانيين. ليس الحوار هزيمة، ولا سيما أن خصوم حزب الله كسبوا الجولة الأولى منه ومنعوا انتخاب فرنجية. لا شيء يتحقق في لبنان من دون حوار، وإذا كان الفرنسيون يعرضون تأمين الإطار اللازم لذلك، فمن غير المنطقي إدانتهم لأنهم يكرسون الوقت لبلد يستنفد حرفيا أوقات الآخرين.
*مايكل يونغ: محرر مدونة "ديوان" ومدير تحرير في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط.