الغد
مايكل يونغ* - (كارنيغي الشرق الأوسط) 2025/4/24
يفسر التاريخ الحديث لماذا ينظر المسؤولون في بيروت بعين الريبة إلى الولايات المتحدة.
شهد الأسبوع الذي سبق كتابة هذه السطور تبادلا لافتا للتصريحات عبر منصة "أكس". فقد علقت الموفدة الأميركية إلى لبنان، مورغان أورتاغوس، على تغريدة للباحث في "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات الأميركية"، ديفيد داوود، أورد فيها موجزا لمقابلة وليد جنبلاط الأخيرة مع شبكة "التلفزيون العربي" التي يقع مقرها في قطر.
وفقا للملخص الذي نشره داوود، أكد جنبلاط في المقابلة على أن "أورتاغوس تضع شروطا تعجيزية، مثل "استئصال حزب الله، بما في ذلك سلاح حزب الله. ولكن هل تم تحديد المواقع كلها، وهل ثمة استعداد لدعم الجيش اللبناني الذي يحتاج إلى أسلحة..."؟ وردا على تغريدة داوود، كتبت أورتاغوس عبارة Crack is Whack, Walid، بما معناه أن "(مخدر) الكراك مدمر، يا وليد"، وهو شعار شائع في سياق مكافحة المخدرات. من الصعب أن نفهم لماذا ردت أورتاغوس بفظاظة غير مبررة على تعليق لم يهاجمها شخصيا، ملمحة إلى أن تعاطي المخدرات قد أغشى تفكير جنبلاط السليم. عموما، لا يقتضي دور الموفدين الأميركيين الخوض في سجالات صبيانية على منصات التواصل الاجتماعي مع سياسيين من الدول التي يعملون فيها، لكننا نختبر اليوم حقبة غريبة عجيبة من الدبلوماسية الأميركية.
ردًا على ذلك، غرد الزعيم الدرزي بلوحة شهيرة لهانز لاروين، يظهر فيها الموت واقفًا خلف جندي في الحرب العالمية الأولى، وأرفقها بعبارة The Ugly American (الأميركي القبيح) لوصف أورتاغوس. وكان جنبلاط يلمح إلى أن الأميركيين يحاولون جر اللبنانيين إلى صراع مسلح مع حزب الله، الأمر الذي لن يحمل معه سوى الموت والدمار.
بصرف النظر عن هذا التبادل الملفت للتصريحات، أثارت هذه الحادثة سؤالا مهما حول العلاقات الأميركية اللبنانية. فمنذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حين فرضت الولايات المتحدة اتفاق استسلام على حزب الله، باتت واشنطن الرجل القوي الجديد في البلاد. أما على الجانب اللبناني، فقد التزم كلٌ من رئيس الجمهورية، جوزيف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام، بتطبيق القرار 1701، الداعي إلى نزع سلاح حزب الله من جنوب نهر الليطاني.
تفيد الأنباء الواردة من بيروت بأن أورتاغوس غير راضية عن وتيرة نزع السلاح، حتى لو أن السلطات اللبنانية سلطت الضوء رسميًا على إعجاب أورتاغوس بنشر عناصر الجيش اللبناني في الجنوب خلال زيارتها الأخيرة. وبدا أن تصريحات جنبلاط تعكس تفسيرًا أكثر تحفظًا للمزاج الأميركي. مع ذلك، قد تستفيد أورتاغوس من الاطلاع على تاريخ لبنان منذ 1982 فصاعدًا، وهو العام الذي ولدت فيه، لفهم سبب تردد اللبنانيين إلى هذه الدرجة في الوثوق بالأميركيين حين يتعلق الأمر بالعلاقة بين الدولة وحزب الله.
في صيف العام 1982، اجتاح الإسرائيليون لبنان بهدف طرد "منظمة التحرير الفلسطينية" من البلاد. وقد أجرى الأميركيون مفاوضات، ممثلين بالدبلوماسي المتقاعد فيليب حبيب، من أجل انسحاب الفلسطينيين، ما أدى في نهاية المطاف إلى انتخاب أمين الجميل رئيسًا (بعد أن أقدم السوريون على اغتيال شقيقه الرئيس المنتخب بشير الجميل). وقامت واشنطن برعاية المفاوضات حول اتفاق انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية، وهو مشروع كان يفضله وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جورج شولتز. لكن الاتفاق، الذي جرى توقيعه في 17 أيار (مايو) 1983 كان في الحقيقة اتفاق سلام، ما أثار عداء السوريين إلى حد كبير. كانت رغبة شولتز في تنفيذ هذا الاتفاق أحد أسباب تمكنه من إطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في لبنان، ضمن قوة متعددة الجنسيات لحفظ السلام، ووسط معارضة متنامية في واشنطن.
عارض شولتز في هذا الشأن وزير الدفاع الأميركي آنذاك، كاسبار واينبرغر، الذي كان أشد حذرًا بكثير حيال الوجود العسكري الأميركي في لبنان. وفي نهاية المطاف، ثبت أن واينبرغر كان على حق عندما خسر الأميركيون 241 جنديًا في تفجير انتحاري في مطار بيروت، وفشلت الحكومة اللبنانية في تطبيق اتفاق 17 أيار (مايو). في غضون ذلك، شجع الأميركيون الحكومة اللبنانية على بسط سلطتها على أرجاء البلاد كافة، ما أسفر عن اندلاع اشتباكات بين الجيش والميليشيات الشيعية والدرزية المتحالفة مع سورية. وبحلول كانون الثاني (يناير) 1984، كان الجيش في حالة حرب مع جزء من شعبه، وكان يقصف ضاحية بيروت الجنوبية. وبعد أن انتفضت الميليشيات ضد حكومة الجميل في 6 شباط (فبراير) 1984، "أعاد الأميركيون نشر قواتهم على السفن قبالة الساحل"، في إشارة ملطفة إلى أنهم فروا من البلاد. وبينما صورت إدارة ريغن ذلك على أنه صمود، عمدت إلى إنهاء المهمة الأميركية في بيروت بحلول أواخر آذار (مارس).
منذ ذلك الحين، اعتبرت الولايات المتحدة تجربتها الفاشلة في لبنان هزيمةً موجعة، وتجاهلت البلد بالكامل على مدى أكثر من عقدين من الزمن. وعندما اجتاحت قوات صدام حسين الكويت في آب (أغسطس) 1990، سمح الأميركيون للقوات السورية بانتهاك اتفاق "الخطوط الحمراء" للعام 1976، واستخدام طائراتها للإطاحة بميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية اللبنانية الذي كان معارِضًا لسورية. فعل الأميركيون ذلك سعيًا منهم إلى الحصول على دعم عسكري سوري لعملية كبرى لتحرير الكويت. فكان أن اجتاح السوريون مناطق عون في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، مرسخين بذلك قبضة دمشق الخانقة على لبنان، حتى الانسحاب السوري في العام 2005.
تبدت العواقب الوخيمة في نيسان (أبريل) 1996، حينما شنت إسرائيل عملية "عناقيد الغضب" في لبنان ضد حزب الله. لم يسافر وزير الخارجية الأميركي آنذاك، وارن كريستوفر، إلى بيروت، بل إلى دمشق للتفاوض على حل مع الرئيس السوري حافظ الأسد. وجرى تهميش المسؤولين اللبنانيين، مع أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في العاصمة السورية كانت له تداعيات كبرى على البلاد. أفضى ذلك إلى ما سمي بـ"تفاهم نيسان"، الذي أرسى قواعد الاشتباك في الجنوب، مساويًا بين حزب الله والإسرائيليين على نحو أضر بالدولة اللبنانية. وحين يلقي المسؤولون الأميركيون اليوم باللائمة على اللبنانيين لإضفائهم الشرعية على حزب الله، فإنهم يتناسون أنهم أيدوا اتفاقًا بالغ الأثر في العام 1996، فعل الأمر نفسه تماما.
كانت دروس ما بعد العام 1982 واضحة من المنظور اللبناني. الدرس الأول كان أن الأميركيين لا يترددون في جر اللبنانيين إلى صراع داخلي سعيًا وراء أهداف تفضلها الولايات المتحدة وإسرائيل، ثم يتخلون عنهم عندما تسوء الأمور. والدرس الثاني كان أن واشنطن تستخدم لبنان بسهولة كورقة مساومة عندما يحقق لها ذلك مكاسب قيمة، كما فعلت في أواخر العام 1990. أما الدرس الأخير، فكان أن الأميركيين يعقدون صفقات سرية من وراء ظهر لبنان، لا تؤدي سوى إلى تقويض سيادته، أو ما يعد سيادة، ثم يحملون اللبنانيين مسؤولية العواقب، كما اتضح من موافقة كريستوفر على تفاهم نيسان.
وهكذا، لا يحتاج المرء اليوم إلى تعاطي المخدرات ليعي أن الوثوق بالأميركيين غالبًا ما يكون فكرةً سيئة. وهذا ما تثبت صحته أكثر عندما تأتي مبعوثتهم إلى بيروت وتستهل تصريحاتها بتوجيه الشكر إلى إسرائيل على إلحاق الهزيمة بحزب الله، غافلة عن حقيقة أن الإسرائيليين فعلوا ذلك بعد أن قتلوا آلاف المدنيين اللبنانيين، ودمروا جزءًا كبيرًا من البلاد. كذلك، بوسع المسؤولين في بيروت أن يروا بوضوح أن الأميركيين سمحوا لإسرائيل بانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوضت عليه واشنطن نفسها. وبما أننا نستخدم هنا مصطلحات تتعلق بالمخدرات، فربما يكون المغزى الحقيقي أن اللبنانيين لا يريدون ببساطة أن يتعاطوا بضاعة مغشوشة.
*مايكل يونغ: محرر مدونة "ديوان"، ومدير تحرير في مركز مالكوم كير - كارنيغي للشرق الأوسط.