عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Jun-2025

يقين*إسماعيل الشريف

 الدستور

لن تقتلكِ. أنتِ أقوى مما تتصورين. الذاكرة لا تقتل. تؤلم ألمًا لا يُطاق، ربما. فدوى طوقان، رواية الطنطورية.
بين الوجوه المؤثرة التي أتابعها على إنستغرام، كان هناك وجه طفلة لا تتجاوز الحادية عشرة سنة من عمرها، تحمل اسمًا جميلًا: «يقين». كانت تُشِع نورًا ملائكيًّا في كل ظهور لها، فأسرت قلبي بجمالها الأخاذ الذي يعكس جمال بناتنا، وببراءتها العفوية التي تذكرنا ببراءة أطفالنا، وبكلماتها العذبة التي تنساب كالعسل، وبروحها الشفافة النقية كأرواح الملائكة. قدمت نفسها للعالم بكلمات بسيطة لكنها عميقة المعنى: «أسعى لأن أنثر الفرح في قلوب الأطفال الآخرين، عسى أن يجدوا في ذلك عزاءً ينسيهم ويلات الحرب».
وُلدت يقين في أرض محاصرة تُدعى غزة، حيث نشأت على إيقاع صوت الطائرات المدمِّرة وهي تمزق سماء وطنها قصفًا، إلى أن لقيت ربها شهيدة في الإبادة الجارية هناك. تعلمت الفرار من زئير المقاتلات الحربية قبل أن تتقن مهارة ربط حذائها الصغير، وارتشفت حليب الطفولة على أنغام الطائرات المسيرة المرعبة «الزنانات». وبينما كان من المفترض أن تخط كلماتها الأولى في دفاترها المدرسية، وأن تسير صباحًا إلى مدرستها حاملة حقيبتها وطعامها، وأن تودع والديها بقبلة حانية كما يفعل جميع أطفال الأرض، كانت هي تسطر على منصات التواصل الاجتماعي مأساة أهل غزة الحقيقية، وتوثق بعدستها الصغيرة مشاهد الموت تحت وابل القصف، وهي تبتسم وتلهو وتوزع الهدايا، تسجل الحياة وهي تُنتزع من بين الأنقاض.
تأمل في هذا المشهد المؤثر: طفلة في الحادية عشرة من عمرها تقوم بتعليم الآخرين استراتيجيات البقاء على قيد الحياة في مواجهة آلة الحرب الصهيو-أمريكية المدمِّرة. ومن أبرز المحتوى الذي شاركته مع العالم: كيفية إعداد الطعام رغم عدم وجود الغاز.
آلة القتل الصهيونية تتمتع بذكاء شيطاني في ممارسة الشر، فهي ماكرة ومدمرة وخبيثة في آن واحد. لقد أزهقت أرواح أكثر من 230 صحفيًّا في مسعى يائس لكتم صوت الحقيقة وإخماد جذوتها، غير أنها تدرك جيدًا أن مهمة نقل الحقيقة لا تقتصر على الصحفيين فحسب. فهناك المؤثِِّرون الذين لعبوا دورًا محوريًّا وحاسمًا في تحويل مسار الرأي العام العالمي، من خلال نقلهم الأحداث بالصوت والصورة مباشرةً من قلب غزة المنكوبة. لقد نجحوا في إجبار الإعلام الغربي على إعادة النظر في روايته وتعديلها، بعدما باتت مصداقيته معلقة على المحك.
وكما نجحت آلة الحرب في إسكات أصوات الصحفيين إلى الأبد، اغتالت أيضًا الطفلة الملهمة يقين حماد. لا تتوفر إحصاءات دقيقة توثق العدد الحقيقي للمؤثرين الذين تم استهدافهم واغتيالهم، نظرًا لعدم وجود جهة رسمية تحتضنهم أو تحصي عددهم، لكنني أجزم بيقين أن عددهم يتجاوز بكثير عدد الصحفيين الشهداء، فكل من يحمل على عاتقه مسؤولية نقل الحقيقة من غزة يصبح هدفًا مباشرًا، وكل من يتجرأ على فضح الجريمة يُحكم عليه بالموت.
يفضح استطلاع صادم ومروع للرأي العام نشرته صحيفة هآرتس حقيقة مرعبة تقشعر لها الأبدان: 82% من الصهاينة يتعطشون لسياسة التطهير العرقي الوحشية في غزة، بينما يتلذذ 47% منهم بفكرة ذبح كل رجل وامرأة وطفل في كل شبر تدنسه أقدامهم الآثمة. والأفظع من ذلك أن 93% منهم يعتنقون بتعصب أعمى أسطورة العماليق التوراتية كحقيقة مقدسة، فيما يستلذ 65% منهم برؤية الفلسطينيين كتجسيد حي لتلك الأسطورة الملعونة، التي تأمر بمحو كل أثر للـ»عدو» من الوجود، حتى كلابهم ومواشيهم.
إذا كان السبب الوحيد لإبقاء هذا الكيان هو إراقة دماء يقين الطاهرة وآلاف الأطفال الأبرياء، وارتكاب أبشع المجازر في تاريخ البشرية، وتجويع الأبرياء حتى الموت البطيء، فإنني أقف مذهولًا حائرًا أمام عمى بعض العرب الذين لا يزالون يمدون أيديهم لهذا الشيطان، ويصافحونه بحرارة، ويضعون أكفهم في كفه الملطخة بدماء الأطفال. كيف يمكن لضميرنا أن يقبل بوجود دولة فصل عنصري بربرية تلتهم الأطفال وتتنفس الهواء نفسه الذي نتنفسه؟
لقد دقت ساعة الحقيقة، بل تأخرت عقودًا، وآن الأوان أن يقطع العرب جميع خيوط العلاقات مع هذا الكيان الشيطاني اللعين، وأن يُحرّم تحريمًا قاطعًا أي شكل من أشكال التعامل أو التفاوض معه.
رحلت يقين الطاهرة بروحها العذبة إلى جنان الخلد، لكن بَصمتها الخالدة وإرثها المقدس سيبقى نورًا يضيء دروب الأجيال ما دامت الشبكات تحمل رسالتها والأسلاك تنقل صوتها، وسيحفر التاريخ اسمها بماء الذهب في سجل الخالدين إلى جانب كل من فدوا فلسطين الحبيبة بأرواحهم الغالية ودمائهم الزكية.