القدس العربي - إن أجمل ما في الصداقة هو الخير والجميل، فالخير موضوع، والجميل أسلوب، هكذا يجمع بينهما الأصدقاء الأفاضل «أليست هناك معرفة في فن الصداقة؟ أفلا يشغل الخير مساحة واسعة في هيرمنيطيقا الصداقة»، بهذا المعنى يكون سقراط على حق عندما قال «ما يضفي ملكة المعرفة على العارف هو مثال الخير فهو علة العلم والحقيقة».
لكن تجلي الجميل من خلال التفسير والفهم والحوار، لأن هذه المفاهيم ترتبط ارتباطا جدليا في صداقة الأخيار الذين يخاطبهم نيتشه قائلا «أنتم الذين عزاؤكم هو أن تعرفوا. آه، وأن تسلكوا سبيل صحة المستقبل، أنتم المهيئون سلفا، أنتم الظافرون، أنتم قاهرو الزمن، أنتم الأقوى والأكثر قداسة».
ولعل هذا هو السبب في أنني أنظر إلى الجدل الدائر حول الصداقة في الفيسبوك على أنه مجرد تنازع زائف، وضيق الأفق في مجال سياسة الصداقة، باعتبارها الخير بما هو خير .ومهما تكن هذه الصداقة فارغة من المعنى، فإنها تسعى إلى إنتاج المعنى واستهلاكه في اليوم نفسه، حيث نجد أن الطابع المميز لهذه الصداقة الزائفة هو قِصر عمرها، بل تكاد تكون عابرة، لأنها توحي بأنها صداقة بالعرض وليس بالذات، وسيكون علينا أن نبين لماذا أن هذه الصداقة الفيسبوكية تنتمي إلى مكر الصدفة، وتتبلور أحيانا انطلاقا من الخداع، ولذلك تنتهي بسرعة بمجرد ما تمزق الحقيقة القناع عن وجهها الشرير، فهل يمكن للصداقة التي لا تقوم على الخير أن تدوم؟ وهــــل أن كل ما لا يبدأ جميلا ومعبرا عن الجمال، باستطاعته أن يقاوم الزمن؟
فلسفة الصداقة عظيمة، ولذلك فإنهــــا تهـــزم تلك الأرواح الهشة التي لا تستطيع أن تفرح بمثال الخير، حيث يقهـــرها بعنفه الرمزي، فهي تتحدث عن الصداقة وتعني العــــداوة، هكذا لا تستطيع الابتكار في لغــــة الصـــداقة، حيث نجد أغلب هؤلاء يتحسرون على أن زمن الصداقة قد ولّى، ولم يعد هناك من يستحق صداقتهم، وعندما يبحثون عن الصداقة في الافتراضي، يعاودهم الندم، فيهربون بسرعة نحو طبيعتهم الشريرة، وكأنهم لصوص اكتُشف أمرهم .
الواقع أن سقراط كان رائعا عندما انتقد شعراء المحاكاة، باعتبارهم يتحدثون «عن أشياء لا يعرفونها»، ولذلك نظر إلى المعرفة التي تأتي عن طريق شعر المحاكاة بأنها معرفة غير حقيقية، ما جعله يستبعد هذا الشعر من جمهوريته، لأنه يريد أن يؤسس الدولة الفاضلة، فلا مكان لمن يخدعنا فيها، فهؤلاء الذين يدعون الصداقة وهم يحملون الكراهية والحقد، ينبغي تنظيف الفضاء الأزرق منهم، وإلا سيلوثونه.
أرسطو والصداقة في مقابل الفيسبوك والصداقة، ينبغي أن نتأمل هذا التقابل، من أجل عودة مفهوم الصداقة بمعناها الفلسفي، وإلا ستهجر هذه الأرض التي أضحت مهددة بالدمار، بالتقنية والوباء.
نتساءل بكل براءة، كيف يمكن الدفاع عن الصداقة بمعناها الميتافيزيقي في مجتمع ملوث بالأشرار؟ وكيف تكون الصداقة ممكنة مع الأداء بالماهية؟ لقد كان هذا المشكل مطروحا أمام أفلاطون، ولذلك أراد سقراط، وهو المتحدث بلسان أفلاطون، أن يثير هذه الإشكالية من وجهة نظرية الخير الميتافيزيقية، من خلال حواره مع خصومه، بيد أن أرسطو سيتناول الصداقة في كتاب «الأخلاق»، لأنها قضية أخلاقية تؤسس للسعادة وتبادل الخير والمحبة، وكل ذلك من أجل تأسيس لنظرية السياسة المدنية، فلا سياسة بدون صداقة حقيقية، لأن غايتهما معا هي سعادة الإنسان، بما هو إنسان، وليس بما هو حيوان مفترس لنوعه.
أرسطو والصداقة في مقابل الفيسبوك والصداقة، ينبغي أن نتأمل هذا التقابل، من أجل عودة مفهوم الصداقة بمعناها الفلسفي، وإلا ستهجر هذه الأرض التي أضحت مهددة بالدمار، بالتقنية والوباء، فالصداقة المثالية التي تتأسس حول الخير والجميل، لم تعد تمثل إلينا شيئا من الماضي، بل يجب أن تكتسب شرعيتها من التأملات الفلسفية، فمادامت هناك فلسفة، فإن الصداقة المثالية موجودة، قد تكون معتقلة في الاغتراب، ولكنها قد حفزت على الدوام مسار العلم والفلسفة والسياسة والفن، هؤلاء الذين لن يكونوا أصدقاء، إلا إذا كانوا سعداء ولكن أين كل هذا من الشعور بوقع الاغتراب والصدمة، الذي تفرضه أشكال الصداقة السائدة في هذا العصر؟
إذا كنا منفتحين على التقنية والسعي إلى استثمارها في الصداقة، فإن هذا لايمنع من القول بأن التقنية قد أفسدت الصداقة، وجعلتها بلا معنى، فلم تعد الصداقة المرسومة على الحائط الأزرق من كــونها خــــبرة بفقــــدان دائم، ولكنها تُظهــــر لنا الاختلاف الحاد بين الصداقة الجديدة المنبثقة عن التقنية، والصداقة القديمة التي كانت تروج من خلال الرسائل والكتب والحوار الفلسفي عامة. ويبقى السؤال مفتوحا عما إذا كان هذا العصر، أي عصر التقنية قد قاده القدر إلى نسيان الصداقة كماهية والاحتفاظ بها كاسم على نحو ما تظهر على اللوحة .
هناك شيء واحد متفق عليه من قبل أصدقاء الفيسبوك هو الافتراض الساذج بأن اللحظة تعد كافية للتعبير عن الصداقة، كما لو كانت سياحة في رواق متحف يتجول فيه السياح بسرعة، منبهرين أمام تلك الأعمال الخالدة وعيونهم تعبر عن دهشة كبيرة. وبمجرد خروجهم من المتحف، يشعرون بأنهم تركوا بالفعل شيئا ما وراءهم، وليس من قبيل الصدفة أن يقول أرسطو بأن السياج حلل صداقات، وبعبارة واضحة إن الصداقة على الحائط الأزرق تشبه زيارة متحف اللوفر، لا تمارس تأثيرها العميق على عاطفة هذا الإنسان الغريب على الأرض.
٭ كاتب من المغرب