عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Sep-2025

بؤساء الصحافة*فراس النعسان

 الدستور

ليس كل بؤس علامة على الانكسار، ولا كل شقاء دليلاً على الهزيمة. في الصحافة الأردنية، كما في كل الصحافات الكبرى، هناك طبقة من المنسيين الذين عاشوا أعمارهم بين رائحة الحبر وصفير المطابع، ولم يتركوا خلفهم إلا آثار أقدام في دروبٍ موحلة. هؤلاء هم «بؤساء الصحافة»، الذين عاشوا غرباء في قلب المهنة، لكنهم أقاموا لها بنياناً ما كان لغيرهم أن يشيّده.
 
يشبهون شخصيات فيكتور هوغو في ملحمته الشهيرة، أولئك الذين تآمر عليهم القدر والظروف، لكنهم أصرّوا أن يحوّلوا بؤسهم إلى مدماك في بناء عامر. لم يكن البؤس هنا عاراً، بل كان وقوداً، وكان امتحاناً من نوع آخر؛ امتحاناً لمقدار صبر الإنسان على أن يحمل قلمه كصليبٍ فوق كتفيه، دون أن ينتظر خلاصاً عاجلاً.
 
لقد مرّ على الصحافة الأردنية رجال ونساء لا تذكرهم الأضواء، لم يُمنحوا جوائز، ولم تُعلّق صورهم في صالات التحرير، لكنهم كانوا هناك، في الصفوف الخلفية، يكتبون افتتاحيات بلا توقيع، أو يحررون أخباراً تُنسب إلى «المحرر»، أو يسهرون على ضبط نصوص الآخرين. كانوا كعمّال المناجم، يغوصون في العتمة بحثاً عن شرارة صغيرة، ويعودون إلى السطح مغطّين بغبار الحقيقة. لم يكن لهم من الامتيازات إلا القلم، ومن الثروات إلا الكلمة، ومن المقاعد إلا ما تيسّر في مقهى شعبي أو في غرفة تحرير ضيقة. ومع ذلك، تركوا وراءهم نصوصاً أشبه بالوشم على جلد الزمن.
 
أولئك البؤساء لم يعرفوا معنى الإجازات، ولم يختبروا نعيم الرواتب العالية، ولم يجدوا في نهاية الشهر سوى ورقة خجولة بالكاد تكفي لإيجار البيت وثمن الخبز. ومع ذلك، كانوا يكتبون بثراء لا يملكه الأثرياء، ويزاوجون بين اللغة والهمّ العام كما يزاوج الصوفي بين التبتل والوجد. كانوا يعرفون أن الصحافة ليست مهنة لتكديس الثروة ولا منصة لتلميع الذات، بل امتحان أخلاقي يومي، ورسالة تتجاوز حدود الورق إلى أرواح القرّاء.
 
ولهذا عاشوا غرباء بين أصحاب النفوذ، ومشاغبين في حضرة السلطات، وقلقين حتى في لحظات الفرح. بؤسهم لم يكن فقراً في الخيال، بل ثراءً في الانحياز للناس، للفقراء والجنود والطلاب والعابرين على أرصفة المدن. كانوا شهوداً على التحولات الكبرى التي مرّت بها البلاد، يكتبون عنها بحبرٍ ممزوج بعرقهم، حتى صارت نصوصهم بمثابة الأرشيف الحقيقي لما لم يدوّن في المحاضر الرسمية.
 
الغريب أن هؤلاء البؤساء هم الذين صنعوا هيبة المهنة. لولاهم لكانت الصحف مجرد نشرات باردة، ولتحوّل الحبر إلى ماء لا لون له ولا طعم. كانوا هم الحصاة التي تكسر رتابة النهر، والوتر الناشز الذي يمنح اللحن صدقه. هم الذين ورّثوا الأجيال اللاحقة قناعة بأن الصحافة ليست وظيفة، بل قدر، وأن من يطرق بابها عليه أن يستعد لدفع ثمنها كاملاً من راحته وصحته وعمره.
 
إن استذكار بؤساء الصحافة الأردنية اليوم ليس بكاءً على الأطلال، بل هو إعادة اعتبار لأولئك الذين لم تلتقطهم عدسات الكاميرات، ولم تُرصَّع أسماؤهم بالأوسمة. هم الذين رحلوا بصمت، لكنهم تركوا لنا قاموساً من الكلمات التي ما زالت تقاوم الصدأ، وتذكّرنا أن البؤس أحياناً يولّد أعظم أشكال الثراء. فمن بين بؤسهم نبتت نصوص صارت مرجعاً في الثقافة السياسية والاجتماعية، نصوص لا تزال تنبض بالحياة بعد أن رحل أصحابها، وكأنها تقول: إن الجسد يفنى، لكن الكلمة لا تموت.
 
في كل صحيفة عريقة، وفي كل جريدة كبرى، هناك أسماء صغيرة خطّت عناوين كبيرة. هناك وجوه لم نعرفها، لكنها أضاءت لنا الطريق. هناك محررون بسطاء، لم يطمحوا سوى أن يروا الكلمة تخرج نقية من مطابع منهكة، ولم ينتظروا تصفيقاً ولا مديحاً. هؤلاء هم بؤساء الصحافة الذين كانوا أوفياء لمهنة لم تبادلهم الوفاء، وحرّاساً لرسالة كثيرون من بعدهم حوّلوها إلى تجارة.
 
  لكن هل تستطيع الصحافة أن تعيش بلا بؤس؟ سؤال يبدو قاسياً، لكنه يكشف أن الإبداع لا يولد من الترف، وأن الصدق لا يزدهر في ظل الامتيازات، بل في ساحات العناء.
 
 لعل ما تحتاجه الصحافة الأردنية اليوم هو أن تستعيد شيئاً من روح أولئك البؤساء، أن تذكّر نفسها أن العظمة لا تُقاس بعدد المتابعين ولا بحجم الإعلانات، بل بمدى قدرتها على أن تبقى ضميراً حياً للأمة. فالأمة التي تنسى بؤساءها، تنسى أيضاً جذور قوتها. والبؤساء، مهما غابوا عن العناوين، يظلون الحبر الذي كتب اسم الأردن في دفتر التاريخ.