عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Apr-2025

فاطمة كانت هنا*إسماعيل الشريف

 الدستور

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا... ولكن لا حياة لمن تُنادي
ولو نارًا نفختَ بها أضاءت... ولكنك تنفخ في الرماد- عمرو بن معدي كرب
تم اختيار الفيلم الوثائقي ضع روحك على كفك وامشِ للعرض في مهرجان «كان» السينمائي الشهر المقبل. هذا العمل، من إخراج الإيرانية سبيدة فارسي، يوثّق الحياة اليومية للغزيّين تحت الحصار والقصف، كما ترصدها عدسة المصوّرة الصحفية الفلسطينية فاطمة حسونة.
وكما يواجه الغزّيّون معاناة يومية، واجهت فاطمة تحديات جمّة في إيصال صورها إلى المخرجة، بعدما حالت ظروف الحرب دون استخدام الوسائل المعتادة، فلجأت إلى إرسالها عبر مكالمات الفيديو.
وفي مقابلة لها مع موقع ميدل إيست آي، قالت فاطمة:
«الصورة والكاميرا سلاحان. كثيرًا ما أقول لأصدقائي: تعالوا وانظروا... نحن لا نحشو كاميراتنا بالرصاص، بل أضع بطاقة الذاكرة هذه، فهي رصاصة الكاميرا. بطاقة الذاكرة تغيّر العالم، وتدافع عني. تُظهر للعالم ما يحدث لي، وما يحدث للآخرين. لهذا اعتبرتها سلاحي، أدافع بها عن نفسي، كي لا تُنسى عائلتي، ولكي أتمكن من توثيق قصص الناس... حتى لا تتبخر قصص عائلتي في الهواء.»
وفي لحظةٍ مُفعمة بالمرارة، كتبت فاطمة على صفحتها في إنستغرام:
«إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا. لا أريد أن أكون مجرد خبرٍ عاجل، أو رقمٍ في قائمة. أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورةً خالدة لا يمحوها تغيّر الزمان ولا المكان.»
لم يحتمل الصهاينة المجرمون توثيقها لجرائمهم، ولا أن يرى العالم صورها، فانتقموا منها بوحشية. وبعد يومٍ واحد فقط من إعلان مشاركة الفيلم في مهرجان «كان»، استهدفت طائرات الاحتلال منزلها في حي التفاح، فاغتالت فاطمة، ومعها تسعة من أفراد عائلتها.
رأى الصهاينة في كاميرتها سلاحًا لا يقل خطرًا عن البندقية. أغاظهم الفيلم الذي وثّق جرائمهم، فقرّروا إخماد الصوت والصورة معًا، بالانتقام منها عبر استهدافها وعائلتها بأكملها.
تُمعن هذه الدولة المجرمة، التي ضربت بالقوانين والمواثيق عرض الحائط، في قتل الصحفيين الذين ينقلون للعالم فصول الإبادة الجماعية في غزة. لم يشهد التاريخ الحديث حربًا أُبيد فيها هذا العدد من حَمَلة الكاميرا والقلم كما شهدت غزة الجريحة.
إنهم يُستهدفون عمدًا، وتُمنع وسائل الإعلام من دخول القطاع، لأن الاحتلال يرى في الكاميرا تهديدًا، وفي الصحفي عدوًا يجب تصفيته. في نظره، الحقيقة خطر، والصورة فضيحة، والصوت جريمة لا تُغتفر.
فالكيان الصهيوني كيان قائم على الأكاذيب، وكل ما يهدّد هذه الأكاذيب يُعدّ خطرًا يجب التخلّص منه. كل عدسة تفضح، وكل قلم يدوّن الحقيقة، يصبح هدفًا مشروعًا في نظرهم. ومن يدعم الصهيونية في الخارج لا يريد للحقيقة أن تُكشف، كي يواصل دعمه دون أن يُقظ مضجعه ضمير، أو يواجه ضغطًا من الرأي العام.
ولهذا يُمنع الصحفيون الأجانب من دخول غزة، وتُسكت الأصوات الحرة، ويُطرد ويُهمَّش كل من تجرأ على وصف جرائمهم كما هي: إبادة جماعية. فلا يمكن لـ»إسرائيل» والحقيقة أن تتعايشا. أعداء الصهيونية يدركون ذلك، و»إسرائيل» تعرفه جيدًا أيضًا. لذا، فإن أسلحتها وأساليب حلفائها لا تقتصر على القنابل والرصاص، بل تشمل أيضًا الدعاية، والرقابة، وطرد الأساتذة الجامعيين، ومنع التظاهرات، وإسكات كل صوت حر.
بينما السلاح الحقيقي للمقاومين هو الصورة... والقلم... والكلمة... وصدورهم العارية.
وكما أرادت الشهيدة، كان استشهادها مسموعًا. هزّ نبأ رحيلها منصات التواصل الاجتماعي، وأثار حزنًا واسعًا في قلوب الصحفيين، والمؤسسات الإعلامية، وأحرار العالم. نعاها الآلاف، ووقفوا أمام صورتها بصمتٍ خاشع، يودّعون العدسة التي قاومت حتى آخر نفس. وكما تمنّت، فإن فقدها لن يُنسى، وسيبقى رثاؤها شاهدًا حيًّا للأجيال القادمة، ودليلًا دامغًا على إجرام الصهاينة.
كما قالت الشهيدة، فإن الغزيين يحملون أرواحهم على أيديهم. يتقبّلون الموت، لكن ما يقلقهم حقًا هو أن يُمحى اسمهم، أن يُختصروا في رقمٍ باهت في عدّاد الضحايا. يريدون أن يشعروا بإنسانيتهم، أن يُعامَلوا كأرواح تستحق الحياة، لا كأرقام تُنسى بعد نشر الإحصاءات. نحن جميعًا مسؤولون، لأننا لم نوفر لهم حتى أبسط متطلبات الإنسان... لم نوفر لهم الحياة.
سيُعرض الفيلم الذي يروي معاناة أهل غزة وجرائم الصهاينة واستشهاد فاطمة، وسيقف الحضور في مهرجان «كان» مرتدين بذلات «السموكن» وأجمل فساتين السهرة، بأبهى هيئة، يصفّقون بحرارة، وتُذرف الدموع، ويتلف المكياج. وفي اليوم التالي، سيُستشهد مئة فلسطيني، من بينهم صحفي، ومُعلّم، وعامل إغاثة، وثلاثون طفلًا. سيموت طفل من الجوع، ويفقد عشرة أطفال أحد أطرافهم. وستُرسل الولايات المتحدة قنابلها، ويخرج المتظاهرون كغثاء السيل، ويشجب العرب الجرائم... ويستمر المشهد.
رحلت فاطمة، ذات الخمسة والعشرين ربيعًا، قبل أيامٍ فقط من أن تُزف عروسًا. لكن كاميرتها لا تزال شاهدة، وصورها باقية، تنقل للعالم وجع غزة، وتصرخ من بين الركام: «كنتُ هنا... فهل رأيتموني؟»، وسيأتي اليوم الذي يُحاسَب فيه القتَلة، وتُستعاد فيه العدالة من عدسة فاطمة المكسورة تحت ركام غزة.