عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Dec-2024

أوان استعادة مقال اشغل البال|عيسى الشعيبي

سوشيال ميديا

عيسى الشعيبي

هذه هي اللحظة السياسية التي ازفت اخيراً بعد ان تلكّأت كثيراً على طول الطريق، ومن ثمة هذه هي المنسبة التي آن فيها أوان استعادة مقال صحفي قديم، تم نشره قبل أكثر من عقدين مريرين وظل في البال، كان قد كتبه الصحفي اللامع والمثقف الوطني الشجاع سمير قصير، ونشره في "النهار" اللبنانية مطلع الألفية الثالثة تحت عنوان "عسكر على مين" وسط حراك سياسي ثقافي فعّال،
 
كان يعد بكبح تغوّل النظام الأمني اللبناني السوري المشترك، او اقله الحد من تسلطه على سائر مفاصل الحياة العامة في بلاد الأرز، بمن في ذلك الوزراء والصحافيون وطلاب الجامعات، قبل ان يزداد ذلك النظام القمعي وحشية فيما بعد، ويفتك بحيوات نخبة متميزة من الكتّاب والنواب وقادة الأحزاب، وكانوا كلهم من لون سياسي واحد.
 
لم يسقط ذلك المقال الأيقونة من الذاكرة، ولم يفقد أهميته الاستثنائية طوال الوقت الطويل، حيث كثيراً ما كان يتم تداوله بإسهاب، والتذكير بمغزاه كلما اشتد قمع المثقفين في لبنان، كما كان يُنفض عن مضمونه  الغبار كلما انكشفت هشاشة العسكر خلال المواجهات مع الخصوم والأعداء، واحسب ان هرولة العسكر السوري امام المعارضة المسلحة، في بدايات ثورة الحرية والكرامة، المتجددة بأداء أفضل وخطاب أنضج ومضاء أشد، وشمول اسقط النظام، هي أكثر اللحظات ملاءمة لاستعادة هذا المقال، الذي اودى بحياة صاحبه بعد نشره بوقت قليل، فذهب دم هذا الصحافي اللبناني الفلسطيني السوري دفعة على حساب قائمة مديدة من المغدورين الكبار، بدءاً من سليم اللوزي وكمال جنبلاط، وليس نهاية برفيق الحريري وجورج حاوي.
 
على سبيل التحوّط والاستدراك، هناك تحفّظات مقبولة، وذات حساسية مفهومة سلفاً، إزاء التعرض للعسكر في العالم العربي، كون هؤلاء رمزاً سيادياً يوازي العلم والنشيد، وجيشاً وطنياً وحماة الحمى وغير ذلك من التسميات الباعثة على الاعتزاز، الا اننا اليوم (وهذا هو أوان استعادة مقال سمير قصير) امام ظاهرة تتجلى أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وتبرز معالمها في أكثر من بلد عربي واحد، حيث يبدو العسكر فيها وكأنهم كشّافة جون بادن باول، جنوداً توقفوا ليس عن الدفاع عن حدود البلاد والذود عن سيادة الوطن فقط، وانما توقفوا ايضاً عن حقهم الطبيعي المشروع في الدفاع عن النفس، حتى وان تعرّضوا للقتل والاستهداف، على نحو ما بدت عليه هذه الظاهرة الشاذة تتسع خلال عام الإبادة الجماعية هذا، أكثر من ذي قبل.
نحن اليوم امام ثلاث حالات متزامنة ومتماثلة، تُشكّل في مجموعها مقوّمات هذه الظاهرة العصية على الفهم، الأولى نشأت في لبنان منذ زمن بعيد، الا انها اتسعت نطاقاً في العدوان الأخير، حيث سقط نحو خمسين جندياً وضابطاً بنيران العدو، دون ان يُطلق واحد من زملائهم طلقة واحدة ولو في الهواء، ليس تلبية لنداء واجب الدفاع عن وطن معتدى عليه، وانما عن حق فوق قانوني لا مراء فيه، الا وهو حق الدفاع عن الحق في الحياة. اما الثانية فقد لاحت مظاهرها على الحدود المصرية مع غزة ثلاث مرات على الأقل خلال حرب الإبادة، حيث جرى قتل عسكر من "خير اجناد الأرض" دون أدني ردة فعل.
اما ثالثة الأثافي، التي املت في هذا الوقت بالذات استدعاء مقال "عسكر على مين" يا عسكر، فهي ماثلة بالصوت والصورة في هذه الأيام الفاصلة بين زمنين مختلفين، والمتراصفة على امتداد الطريق الواصل بين حلب وحمص وحماة ودرعا، الى ان حطت رحالها في دمشق، حيث هرول عسكر "الأسد او نحرق البلد" وانهاروا تباعاً بالجملة والمفرّق دون قتال، لا دفاعاً عن "سوريا الأسد" ولا حتى عن النفس، في مشهد عزز الظاهرة الشاذة، وعمّق في الوقت ذاته من حالة التهافت والهرولة والاستسلام، وفوق ذلك أطاح سمعة العسكر والعقيدة العسكرية والجيش، وقوّض بشدة مبدأ حق الدفاع عن النفس.
اليوم، وبعد ان ولّى عهد القتلة، وانقضى زمن أجهزة الامن السادية في الشام، أولئك الذين طغوا وتجبّر وصادروا الحريات، وانتهكوا ابسط حقوق الانسان، وأمعنوا في القمع والترويع والتسلط والفساد والاستبداد، يحق لأصدقاء سمير قصير، ومحبيه في كل مكان القول: نم قرير العين أيها الفتى الجميل، فقد صدقت في تشخيصك حال العسكر، وها قد آن أوان طيّ صفحة من أهدروا دمك ذات يوم بعيد، ربما الى ابد الابدين.