عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Mar-2021

كيف يرد بايدن على الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط

 الغد-آنا بورشفسكايا* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 8/3/2021

 
لسنوات، منحت واشنطن الأولوية لمكافحة الإرهاب، ولم تتحول إلا في الآونة الأخيرة إلى التركيز على منافسة القوى العظمى، لكن موسكو لم تغفل عن مسائل الجغرافيا السياسية، وينبغي النظر إلى تصرفاتها في المنطقة من خلال هذه العدسة.
قد يبدو التحدي الروسي في الشرق الأوسط محدوداً. ونظراً للضغط القوي في داخل أميركا من أجل “إنهاء الحروب الأبدية” وسحب القوات الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، قد يكون من غير الواقعي توقع أن يشكل هذا التحدي أولوية قصوى. وفي هذا الإطار، قال وزير الخارجية الأميركي توني بلينكين مؤخراً في أول خطاب رئيسي له في هذا المنصب: “لقد تلاشت ببساطة الفروق بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية أكثر من أي وقت آخر في حياتي المهنية –بل وربما في حياتي كلها”.
في هذا السياق، يتعيّن على إدارة بايدن النظر إلى الصورة الكبرى عندما يتعلق الأمر بروسيا في الشرق الأوسط -أي إلى أهداف موسكو الكبرى وكيفية توافقها مع أنشطتها في أوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عن علاقة روسيا مع الصين، تلك الدولة التي تشكل، وفقاً لبلينكن، “أكبر اختبار جيوسياسي للقرن الواحد والعشرين” بالنسبة للولايات المتحدة.
لطالما كان الشرق الأوسط جزءاً من المنطقة الجنوبية الضعيفة لروسيا، وهي منطقة سعت الدولة الروسية إلى تأمينها في الوقت الذي دفعت فيه إلى لعب دور رئيسي في السياسة الأوروبية واكتساب اعترافٍ بمكانتها كقوة عظمى. ولا تقتصر أسباب أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للكرملين على مصلحته الخاصة، وإنما تنتبع أهميته من حقيقة أن السيطرة في تلك المنطقة تمنح أيضاً المزيد من الفرص لروسيا لتقويض الغرب على جبهات أخرى. وسوف يجعل اكتساب نفوذ أكبر في الشرق الأوسط الكرملين أقرب إلى تحقيق أولى أولوياته، وهي إضعاف النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ حيث أن انتصار روسيا يتطلب خسارة الولايات المتحدة.
وتشكل سورية جزء أساسياً في هذا اللغز الأكبر، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى موقعها الاستراتيجي. وقد ظل البحث عن موانئ المياه الدافئة، بما فيها موانئ شرق البحر الأبيض المتوسط، أولوية ثابتة لدى الحكّام الروس منذ عهد بطرس الأكبر على أقل تقدير. وليس فلاديمير بوتين مختلفاً من هذه الناحية، وقد سمح له تدخله في سورية بالنجاح حيث فشل أسلافه القيصريون والسوفييت -أي تأسيس وجود عسكري دائم يمكنه من خلاله إبراز قوته في اتجاهات متعددة. وما تزال سورية تشكل المسرح الرئيسي لمصالح الكرملين. وربما يكون أكثر ما يوضح ذلك هو النصب التذكاري لقديس الجيش الروسي، الأمير ألكسندر نيفسكي، الذي تمت إزاحة الستار عنه مؤخراً في قاعدة حميميم الجوية الروسية في سورية. ويجسّد وسام ألكسندر نيفسكي فكرة الدفاع عن أرض الأجداد.
إذا تُركت روسيا لتتصرف من دون عراقيل في الشرق الأوسط، فسوف تواصل تقاربها العميق مسبقاً مع إيران (ووكلائها)، وستكون لها في النهاية الكلمة الأخيرة بشأن مستقبل سورية، مما سيؤدي إلى ظهور رابطة مؤلفة من روسية، وإيران، والأسد. ومن هنا، يجب على إدارة بايدن التعامل مع المنطقة من هذا المنظور الأوسع، علماً بأن ذلك لن يجدي نفعاً إلا في نطاق الهدف الحالي المقتصر على منع عودة تنظيم “داعش” من تهديد المصالح الأميركية -حيث لم يُظهر الأسد ولا بوتين رغبة حقيقية، أو قدرة على محاربة التنظيم بشكل ثابت. وستساعد هذه الرؤية الأوسع أيضاً على فهم السبب الذي يدفع موسكو إلى إضافة طبقة أخرى من التعقيدات بدلاً من التعاون بشأن أولوية رئيسية لدى بايدن في المنطقة، هي العودة إلى الاتفاق الإيراني.
وقد يؤدي التقارب بين روسيا وإيران إلى منح روسيا، بمرور الوقت، قدرة أكبر على الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في الخليج العربي، الذي يشكل أحد الممرات المائية الأكثر استراتيجية في العالم -وتحقيق حلم آخر كان بعيد المنال من أحلام بطرس الأكبر، الذي كانت رؤيته للتوسع الروسي تمتد إلى حدود بعيدة تصل إلى المحيط الهندي. وسيؤدي أي خط مفتوح لروسيا إلى الخليج العربي إلى إضعاف النفوذ الأميركي إلى حد كبير. وبطبيعة الحال، يفخر الإيرانيون باستقلالهم، ويحظر الدستور الإيراني منح حقوق إقامة قواعد دائمة لدول أخرى. لكن الحكومة الإيرانية تبدو موالية للكرملين أكثر مما توالي شعبها. وفي آب (أغسطس) 2016، وفقاً لبعض التقارير، استخدمت القاذفات الروسية قاعدة “شهيد نوجه” الجوية بالقرب من مدينة همدان الإيرانية لقصف أهداف تابعة لتنظيم “داعش” في سورية –وقد أثارت هذه العملية غضباً داخلياً في إيران، ولكنها أغضبت طهران في النهاية ليس بسبب استخدام موسكو للقاعدة، وإنما لأنها جاهرت علناً بذلك. وفي أواخر العام 2019، خلال المناورات البحرية المشتركة الأولى بين روسيا وإيران والصين، أفادت بعض التقارير بأن سفينة حربية روسية وصلت إلى ميناء تشابهار في جنوب إيران. وأفادت تقارير أخرى أكثر حداثة بأن طهران عرضت على موسكو استخدام ثلاث قواعد -هي تشابهار وبندر عباس وبندر بوشهر. وفي حين أنه ما يزال هناك الكثير من الأمور غير الواضحة بشأن هذا العرض الذي تناقلته التقارير، فمن المؤكد أنه يثير مخاوف بشأن ما قد تذهب إليه الإمور.
كيف يستطيع بايدن التصدي لهذا التمدد
لا يحتاج بايدن إلى إرسال قوات عسكرية كبيرة إلى سورية، ولكن بإمكانه عمل المزيد لدعم “قوات سورية الديمقراطية” المسيطرة في شرق سورية من خلال وضع بصمة عسكرية خفيفة وبذل جهود دبلوماسية إضافية. وسيساهم هذا الاستثمار قليل التكلفة في عرقلة الجهود الروسية في سورية. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لفريق بايدن أيضاً مواصلة الضغط على الحلفاء العرب لعدم الاعتراف بالأسد، كما فعل سلفه.
لا يخفى أن العقوبات مهمة وتسببت بالألم، لكنها لم تنجح وحدها في إجبار بوتين (أو الأسد) على تغيير سلوكهما بشكل جذري. ولذلك لا بد من الاستمرار بالتهديد بشكل معقول ومتواصل من خلال استخدام القوة ضد وكلاء إيران وروسيا. ولم تؤد ضربات ترامب المحدودة ضد الأسد بعد استخدام نظامه للأسلحة الكيماوية، ولا اشتباك الولايات المتحدة مع الشركات العسكرية الخاصة الروسية، إلى حرب شاملة مع روسيا.
وفي ما يتخطى النطاق السوري، يجب على الولايات المتحدة أن تبقى منخرطة في المنطقة ضمن إطار المنافسة الاستراتيجية الكبرى بين القوى العظمى وليس كوسيلة إلهاء عنها. وفي حين أن لدى الولايات المتحدة مشكلة في السردية في الشرق الأوسط، فإن روسيا تقدّم رؤية واضحة وغير اعتذارية للمنطقة في ظل تردد الغرب. وفضلاً عن ذلك، تمارس روسيا القوة الناعمة في الشرق الأوسط ربما بفعالية أكبر مما كانت تستخدمها في مجال ما بعد الاتحاد السوفياتي. وبوسع الولايات المتحدة أن تفعل المزيد لمواجهة موسكو بمجرد تعزيز تواجدها. وليس من الضروري أن تكون هذه الجهود جوهرية أو مكلفة، لكنها ستؤتي ثمارها على المدى الطويل.
إذا تنامت مكانة روسيا في الشرق الأوسط، فإنها لن تكون مهتمة بالمساعدة على مواجهة الصين –بل إنها، على العكس من ذلك، ربما تساندها فحسب. وقد بدأ التقارب الروسي الصيني منذ حوالي ثلاثين عاماً، وهو أكثر بكثير من مجرد تحول تكتيكي قصير الأمد. وكما كتب المحلل الروسي فلاديمير فرولوف: “ترى النخبة الحاكمة في روسيا أن التقارب مع أوروبا يشكل تهديداً أكبر لقدرتها على الاحتفاظ بالسلطة من أي تحالف ضمني وغير متكافئ مع الصين”. وقد مالت الدولتان إلى العمل جنباً إلى جنب في الشرق الأوسط – والعمل سوياً مع إيران. كما أن موسكو أكثر قلقاً من تجاوزات الصين على حدودها الشرقية من توسعها في المحيط الهادئ الذي يقلق الولايات المتحدة. وإذا كانت الحدود الجنوبية والشرقية لروسيا مستقرة بشكل عام، فسوف يؤدي ذلك فقط إلى إتاحة إمكانية أكبر للانتقال إلى أوروبا، حيث ما تزال روسيا قوة انتقامية تسعى إلى تحقيق ما تفكر فيه.
في حين منحت الولايات المتحدة الأولوية لمكافحة الإرهاب على مدى العشرين عاماً الماضية، ولم تنتقل سوى الآن إلى مضمار المنافسة بين القوى العظمى، لم تغفل موسكو في أي عن مسائل الجغرافيا السياسية، التي تعتبرها مسألة دائمة. وسوف ترسم روسيا وإيران والصين الشرق الأوسط وفقاً لقيمها ومصالحها، والتي تتعارض مع القيم والمصالح الغربية وستضر بمصالح الولايات المتحدة في مناطق أخرى. ومن هذا المنطلق، لا يفترض أن تكون مواجهة التحدي الروسي في الشرق الأوسط مسألة رئيسية ومحورية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بل جزءاً من هذه الرؤية الجيوسياسية الاستراتيجية الأوسع نطاقاً.
 
*زميلة رفيعة في معهد واشنطن، وهي تركز في كتاباتها على سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط، ومؤلفة الكتاب القادم، “حرب بوتين في سورية: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أميركا”.