عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Nov-2020

ثقافة الديمقراطية…. حين يتنفس العالم من رئة أمريكا

 القدس العربي-رامي أبو شهاب

حين أصرّ الرئيس الأمريكي جورج واشنطن (1732ـ 1799) على الانسحاب من الحياة السياسية عام 1797 رافضاً العمل السياسي لأكثر من ثماني سنوات كان حينها يؤسس لوعي ديمقراطي حقيقي. ولعل الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد بدت للكثيرين من سكان العالم حدثاً يتجاوز حدود انتخابات دولة تبحث عن رئيسها، بل بدت للعالم متقاطعة مع عدد من الأهداف التي تبدو متواطئة بشكل عميق وجذري مع المصالح السياسية، ولكنها لدى البعض بدت حالة ارتهان نتيجة الضعف الذي يميز بعض دول العالم التي تخضع لقوى عظمى، نتيجة قصور في الاستقلالية والسيادة، وفي بعض الأحيان بدت الانتخابات الأمريكية نمطاً من أنماط التعويض النفسي لدى الكثير من الشعوب المقموعة، التي لم تعرف طعم الديمقراطية لتتنفسها عبر رئة الولايات المتحدة، التي تبدو لنا في كثير من الأحيان الشيطان والمخلص في آن، ومن ناحية أخرى ثمة مزاح عالمي بأن العالم استعاد تكوينه الطبيعي، وإيقاعه برحيل دونالد ترامب، لتعيش أمريكا كينونتها الطبيعية بخطاياها ومحاسنها.
لقد شكل وضع الدستور الأمريكي نقطة تحول في تحقيق قوة أمريكا التي نهضت على تجربة مريرة نتيجة الحكم الملكي البريطاني، ولهذا شُجعت كل ولاية ـ في مرحلة التأسيس ـ على أن تضع مبادئ دساتيرها في سياق ما يكفل عدم عودة أي نمط من أنماط الرجعية التي تتيح فساد السلطة، والتفرد بها، ومحدودية قوة الشعب، فكما يذكر كتاب «موجز التاريخ الأمريكي»، فقد نص إعلان المبادئ على السيادة الشعبية، وتناوب المناصب الحكومية، وحرية الانتخابات، وتحديد الحريات الأساسية، ومنها حرية التعبير بوصفها مركزاً، ولكن هذه الدساتير وإعلان المبادئ، لم تكن لتخلو من العيوب والنواقص، فضلاً عن خلافات عميقة نشأت بين الولايات، وبمرو الزمن تجاوزت الكثير منها، وهنا نرى أن فاعلية الدينامية وجدلية الحياة تقود إلى ولادة المعنى الأسمى للحرية، التي تنهض على بناء نظام ديمقراطي، بحيث لا يتيح القانون التفرد بالسلطة، واستمراريتها لأي كان، وهو ما توافق عليه رجال القانون، من حيث الاتكاء على مبدأ الفيلسوف مونتسكيو (1689- 1755) القائم على توزان القوى السياسية، التي تتحقق فعلياً لا صورياً، لا كما يحصل في العديد من الدول التي تنشئ مؤسسات غير فاعلة.
إن أهم الدروس الثقافية التي يمكن أن نستنتجها من الانتخابات الأخيرة، أن التحول في تكوين السياسية العالمية لم يكن قط نتيجة عوامل خارجية، إنما نتج من قوة أمريكا التي لا ترتهن لأطراف خارجية، فالتحول بصورته الشيطانية، أو الإيجابية يتأتى داخلياً؛ أي من قرار المواطن الأمريكي، ولعل أمريكا لن تكف عن إقلاق بعض الدول التي ترزح تحت وطأة أنظمة بائدة لم تتمكن من تحقيق أي إضافة للإنسان الفرد أو المواطن، أو للبشرية، سوى أن يكون وجودها عائقاً لتكوين نمط الإنسان الطبيعي وجوده المثالي، وبأن هذا الإنسان قادر على أن يسهم في تكوين أمته.
إن هذا التحول الجديد قد تحقق بإرادة الشعب الأمريكي، ولكنه يعني من ناحية أخرى إطلاق دروس لبعض الدول التي لا تؤمن بالديمقراطية، ولاسيما من دولة لا يتجاوز عمرها ثلاثة قرون، ولعل أهمها ما تحقق خلال السنوات الماضية حين اعتلى أول رئيس أمريكي من أصل افريقي هرم الحكم، ونعني باراك أوباما، ولكن هذه الديمقراطية لم تتوقف عن مفاجأتنا حين تركت دونالد ترامب سيدها ليختبر العالم أجمعه أسوأ مرحلة سياسية، ولا سيما بدافع الخلفية التي أتى منها دونالد ترامب وبالتحديد الافتقار إلى ثقافة تتصل بالمعرفة، كما الإيمان بمبادئ أمريكا، وقيمها، التي شكلت إحدى علامات الثقافة الأمريكية التي تباهت بها تاريخياً.
 
أهم الدروس الثقافية التي يمكن أن نستنتجها من الانتخابات الأخيرة، أن التحول في تكوين السياسية العالمية لم يكن قط نتيجة عوامل خارجية، إنما نتج من قوة أمريكا التي لا ترتهن لأطراف خارجية، فالتحول بصورته الشيطانية، أو الإيجابية يتأتى داخلياً.
 
لا يمكن لنا إلان أن نلمح سر حيوية الولايات المتحدة، الذي ينتج عن ذلك المبدأ الذي لا تدركه معظم الديكتاتوريات والأنظمة البدائية، التي لا تؤمن بالتنوع والتعدد، وحق الإنسان بالمساواة والفرص، إنها رئة العالم الذي يتيح لأي كان أن يصبح مواطنا أمريكيا – وربما رئيساً – وأن ينال حقوقه الدستورية، ويتقدم إلى مواقع لا يمكن أن يحلم بها في وطنه الأصلي، فها هي كامالا هاريس ذات الأصول الافريقية والآسيوية – من أب جامايكي وأم هندية – تتمكن من أن تصبح أول امرأة في موقع نائب الرئيس، متجاوزة مرجعياتها العرقية التي تلاشت وذابت في نسيج الثقافة الأمريكية،، التي على الرغم من عدائيتها الخارجية على مستوى السياسة الخارجية، ولكنها في النهاية تبقى دولة ذات مؤسسات تحكمها القوانين والدستور الأمريكي الذي يكفل لها أن تصون عظمتها لا بقوة السلاح وحسب، وإنما انطلاقاً من قدرتها على أن تعيد ولادة ذاتها من خلال تقبل الآخر، والانفتاح على المدى المعرفي الطارئ والجديد من قبل أعراق أخرى، إذ يسهم الكل في أن يكون ولاؤه لأمريكا التي تهبك الحرية والعدالة كي تهبها أنت جهدك وانتماءك!
في حين أن هذا المبدأ يبدو بعيد المنال في عالمنا العربي الذي يخضع لإرث عميق من النبذ والإقصــــاء، في ســـياق المكونات الداخلية لا على مستوى الطارئ الخارجي وحسب؛ ولهذا فإن نتاج أمريكا لا يتوقف من منطلق أن الخضوع لولاءات المحدودية والنخب والعشائرية والعرقية والطائفية لن تنجب سوى اليباب والعدم، والخواء، ومن ثم التلاشي من التاريخ، إذ يشار إلى أن المهاجرين الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة بين عامي 1890ـ 1921 قد بلغ تعدادهم (19) مليون مهاجر قدموا من مختلف بلدان العالم يحلمون بعالم جديد.
هذا المبدأ أسهم في تكوين فلسفة نفي مفهوم النقاء، واللون الواحد، ومن هنا فإن ثمة دافعاً عميقاً لصون هذا المبدأ في الثقافة الأمريكية التي تدرك أن استمرارها ينهض على مبدأ وجودها في الأصل، فلا يمكن أن ننكر أن دونالد ترامب، بدا في مسيرة التاريخ الأمريكي نكوصاً نحو الخلف، أو تشوهاً تاريخياً، على الرغم من انتخابه والأصوات التي حصل عليها – غير أن ثمة مبدأ أقوى من نزعات الإنسان المشوّهة التي توجد أينما كان، وفي أي زمن، وتتمثل بالرغبة والاستحواذ، ورفض الآخر والعدائية، غير أن هذا النقص قد أدرك من لدن الآباء المؤسسين في الولايات المتحدة، ومن جاء بعدهم؛ ولهذا اجترحت أمريكا نموذجاً أو نظاماً لا يخضع لنزعات الضعف، وقيم الأنانية المطلقة، إنما أحكمت وجودها الحر ضمن نظام قانوني يتيح المحافظـــــة على المبدأ، بل يتيح مجالا للعودة في حال ضل البعض عن طريق الصواب، أو حادوا عنه، وهكذا يبدو العالم في لاوعيه الإنساني أكثر قبولاً للعودة إلى النمط الطبيعي، حيث سادت مؤخراً في الإعلام عبارات استعادة أمريكا، وأمريكا الطبيعية، في حين أن شعار أوروبا بدا مرحبا بعودة أمريكا، في حين أن مجموعات أخرى ما انفكت تعيد حساباتها على ضوء هذا التحول. إنها معضلة القيم، والاحتكام إلى العقلانية، فالعالم يسعى لأن يكون أكثر تحضراً، لا أن يتراجع نحو التفرد، وجنون العظمة، ومقولة الصفقات التي تتجاوز القوانين؛ إنها عودة مرتقبة للتوازن، ولكن ينبغي ألا نفرط في التفاؤل!