عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Sep-2025

الإنسان يتخلى عن ذكائه*رمزي الغزوي

 الدستور

لم يعد الذكاء الاصطناعي التوليدي تقنية نراقبها من بعيد، بل واقع يتسلل إلى تفاصيل الكتابة والمعرفة والتعليم. لم يعد دور الحاسوب أن يحسب ويخزن ويحلل فقط، بل أن يكتب أيضا، ويقترح، ويصوغ أفكارا كاملة، بلغة متقنة وصياغة براقة. ما كان يوما فعل عقل وبصيرة، صار الآن مهمة آلية تجرى بضغط زر، في زمن لا يحتمل التأمل ولا يمنح الوقت للتردد.
    يبدو الأمر مثيرا. نصوص تُولد في لحظات، بحجج مرتبة، وأمثلة دقيقة، وأسلوب يكاد يخدع العين والقلب. لكن خلف هذا الإتقان التقني، تتشكل ملامح أزمة حقيقية. أزمة لا تتعلق فقط بمصداقية المعرفة، بل بهوية من ينتجها، وبجدوى التعب الشخصي في زمن باتت فيه الإجابة الجاهزة أقرب من السؤال نفسه. كلما أصبح الوصول أسهل، تلاشت العلاقة المتوترة التي لطالما ربطت الإنسان بالمعرفة: علاقة فيها مقاومة، وفيها سعي، وفيها شك لا بد منه.
   في المدارس، تفقد الفروض معناها حين لا يكون الطالب هو من كتب. وفي الصفوف يغيب التفاعل الحقيقي حين تستبدل المحاولة بالإجابة الفورية. في البحث العلمي، تتحول النصوص إلى قوالب مكرورة ربما تخدع القارئ ولكنها تفتقر إلى العمق. الأخطر من كل ذلك أن يتراجع الحس النقدي، ويُستبدل بالثقة العمياء في نص صيغ وفق خوارزمية لا تملك وعيا ولا هدفا. النص لا يعود حصيلة عقل يختبر، بل نتيجة نموذج يتوقع، ويعيد إنتاج ما اعتاد عليه.
    كلما زاد الاعتماد على هذه الأدوات، تراجعت قدرة العقل على التأمل، وصار السؤال المؤرق: هل نحن نفكر فعلا، أم نستهلك ما تفكر فيه الآلة عنا؟ هل نمارس الفهم، أم نستعير صياغته؟ هل نكتب، أم ننتحل نسخة مقنعة لما نظنه تفكيرا؟
    ليس من الإنصاف أن نرفض هذه الأدوات تماما، فهي تفتح آفاقا جديدة وتوفّر كثيرا من الجهد، لكنها ليست بديلا عن العقل، ولا عن التجربة الشخصية، ولا عن الخطأ الذي يُعلّم. الإبداع لا يُختصر في الوصول إلى النتيجة، بل في مشقة الطريق إليها، في محاولات الكتابة الأولى، في ارتباك الفكرة، وفي التردد الشريف أمام الاحتمالات.
   ما نخشاه اليوم ليس أن تصبح الآلة أذكى من الإنسان، بل أن يتخلى الإنسان عن ذكائه، وينسى كيف يسأل، وكيف يشك، وكيف يكتب لا ليرضي غيره، بل ليعثر على صوته الحقيقي في الكلمات. فهل ننتبه قبل أن نستبدل أنفسنا بنسخ ذكية، سريعة، لكنها لا تعرف لماذا كتبت؟