الغد- ترجمة: علاء الدين أبو زينة
عومير بارتوف* - (الغارديان) 13/8/2024
بعد يومين من هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت: "نحن نقاتل حيوانات بشرية، ويجب أن نتصرف وفقًا لذلك"، مضيفًا في وقت لاحق أن إسرائيل "تدمّر حياً تلو الآخر في غزة". وأكد رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينيت: "نحن نقاتل النازيين". وحث رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الإسرائيليين: "تذكروا ما فعله عماليق بكم"، في إشارة إلى الدعوة التوراتية إلى إبادة "رجال ونساء وأطفال ورضع عماليق". وفي مقابلة إذاعية، قال عن حماس: "أنا لا أسميهم حيوانات بشرية لأن ذلك سيكون مهينًا للحيوانات". وكتب نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري على منصة (إكس) أن هدف إسرائيل يجب أن يكون "محو قطاع غزة من على وجه الأرض". وقال في التلفزيون الإسرائيلي: "لا يوجد أشخاص غير متورطين... يجب أن نذهب إلى هناك ونقتل، نقتل، نقتل. يجب أن نقتلهم قبل أن يقتلونا". وشدد وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، في كلمة: "يجب استكمال العمل... الدمار الشامل. ’تمحو ذكر عماليق من تحت السماء‘". وتحدث آفي ديختر، وزير الزراعة والرئيس السابق لجهاز المخابرات، الشاباك، عن "إحداث نكبة غزة". ومنح الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ شهادة تكريم لجندي إسرائيلي محارب قديم يبلغ من العمر 95 عامًا، حث الجنود في خطابه التحفيزي أمام جنود جيش الدفاع الإسرائيلي الذين يستعدون لغزو غزة على "محو ذكراهم وأسرهم وأمهاتهم وأطفالهم"، لـ"تقديمه مثالاً رائعاً لأجيال من الجنود". لا عجب إذن أن هناك عددًا لا يحصى من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشرها قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة، والتي تدعو إلى "قتل العرب" و"حرق أمهاتهم" و"تسوية غزة بالأرض". ولم يكن هناك أي إجراء تأديبي معروف قام به قادتهم.
هذا هو منطق العنف الذي لا نهاية له؛ منطق يسمح للمرء بتدمير شعوب بأكملها والشعور بأن لديه تبريرا مطلقا للقيام بذلك. إنه منطق حالة الضحية -يجب أن نقتلهم قبل أن يقتلونا، كما فعلوا من قبل- ولا شيء يمكِّن العنف أكثر من الشعور بالأحقية الناجم عن تقمص وضع ضحية. "انظروا إلى ما حدث لنا في العام 1918"، كما قال الجنود الألمان في العام 1942، مذكرين بأسطورة "الطعن في الظهر" الدعائية التي عزت هزيمة ألمانيا الكارثية في الحرب العالمية الأولى إلى الخيانة اليهودية والشيوعية. "انظروا إلى ما حدث لنا في الهولوكوست، عندما وثقنا في أن الآخرين سيأتون لإنقاذنا"، يقول جنود جيش الدفاع الإسرائيلي في العام 2024، وبالتالي يمنحون أنفسهم ترخيصًا للتدمير العشوائي بناء على تشبيه خاطئ بين "حماس" والنازيين.
كان الشبان والشابات الذين تحدثت معهم في ذلك اليوم ممتلئين بالغضب، ليس ضدي كثيرًا -هدأوا قليلاً عندما ذكرتُ لهم خدمتي العسكرية- ولكن لأنهم، على ما أعتقد، شعروا بالخيانة من كل الذين حولهم. خيانة من وسائل الإعلام، التي اعتبروها انتقادية للغاية؛ من كبار القادة الذين اعتقدوا أنهم متساهلون جداً تجاه الفلسطينيين؛ من السياسيين الذين فشلوا في منع الفشل الذريع في 7 تشرين الأول (أكتوبر)؛ من عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق "النصر الكامل"؛ من المثقفين واليساريين الذين ينتقدونهم بشكل غير عادل؛ من حكومة الولايات المتحدة لعدم تسليم ذخائر كافية بالسرعة الكافية؛ ومن كل هؤلاء السياسيين الأوروبيين المنافقين والطلاب المعادين للسامية الذين يحتجون على أفعالهم في غزة. بدوا خائفين وغير آمنين ومرتبكين، ومن المحتمل أن يكون بعضهم يعاني أيضًا من اضطراب ما بعد الصدمة.
أخبرتهم القصة عن كيف استولى النازيون ديمقراطياً على اتحاد الطلاب الألمان في العام 1930. وقد شعر الطلاب في ذلك الوقت بالخيانة بسبب خسارة الحرب العالمية الأولى، وفقدان الفرص بسبب الأزمة الاقتصادية، وفقدان الأرض والهيبة في أعقاب معاهدة السلام المذلة في فرساي. وقد أرادوا جعل ألمانيا عظيمة مرة أخرى، وبدا أن هتلر قادر على الوفاء بهذا الوعد. تم إبعاد أعداء ألمانيا الداخليين، وازدهر اقتصادها، وأصبحت الدول الأخرى تخشاها مرة أخرى، ثم ذهبت إلى الحرب، وغزت أوروبا وقتلت الملايين من الناس. وأخيرًا، تم تدمير البلد تمامًا. ثم تساءلت بصوت عال عما إذا كان الطلاب الألمان القلائل الذين نجوا من تلك السنوات الخمس عشرة قد ندموا على قرارهم في العام 1930 بدعم النازية. لكنني لا أعتقد أن الشباب والشابات في جامعة بن غوريون في بئر السبع فهموا المضامين المختبئة في ما قلته لهم.
كان الطلاب مخيفين وخائفين في الوقت نفسه، وقد جعلهم خوفهم أكثر عدوانية. وبدا أن هذا المستوى من التهديد، فضلاً عن درجة من التداخل في الرأي، قد ولد الخوف والإذعان لدى رؤسائهم وأساتذتهم وإدارييهم، الذين أظهروا ترددًا كبيرًا في ضبطهم بأي شكل من الأشكال. وفي الوقت نفسه، كان مجموعة من النقاد الإعلاميين والسياسيين يهتفون لملائكة الدمار هؤلاء، ويصفونهم بالأبطال قبل لحظة من وضعهم في باطن الأرض ويديرون ظهورهم لعائلاتهم المنكوبة بالحزن. الجنود الذين سقطوا ماتوا لسبب وجيه، كما قيل للعائلات. ولكن لا أحد يأخذ الوقت الكافي للتعبير عن ماهية هذه القضية في الواقع بخلاف مجرد البقاء على قيد الحياة من خلال ممارسة المزيد من العنف.
وهكذا، شعرت أيضًا بالأسف لهؤلاء الطلاب، الذين لم يكونوا مدركين كثيرًا لكيف يتم التلاعب بهم واستغلالهم. لكنني غادرت ذلك الاجتماع مليئًا بالخوف والنذير.
***
بينما كنتُ عائدًا إلى الولايات المتحدة في نهاية حزيران (يونيو)، تأملتُ في تجربتي خلال هذين الأسبوعين الفوضويين والمقلقين. كنت مدركًا لارتباطي العميق بالبلد الذي غادرته. ولا يتعلق الأمر فقط بعلاقتي مع عائلتي وأصدقائي الإسرائيليين، ولكن أيضًا بفحوى الثقافة والمجتمع الإسرائيليين، اللذين يتميزان بافتقارهما إلى المسافة أو الاحترام. ويمكن أن يكون هذا دافئًا وكاشفًا. يمكن للمرء، على الفور تقريبًا، أن يجد نفسه منخرطًا في محادثات مكثفة -وحتى حميمة- مع الآخرين في الشارع، في مقهى، في حانة.
ومع ذلك، يمكن أن يكون هذا الجانب نفسه من الحياة الإسرائيلية محبطًا إلى ما لا نهاية، بما أن هناك القليل جداً من الاحترام للمجاملات الاجتماعية. هناك تقريبًا عبادة للإخلاص، والتزام بالتعبير عن رأيك بغض النظر عمن تتحدث إليه أو مقدار الإساءة التي قد تسببها. هذا التوقع المشترك يخلق أمرين: إحساسًا بالتضامن، وبوجود خطوط لا يمكن تجاوزها. عندما تكون معنا، نحن جميعًا عائلة. وإذا انقلبت ضدنا أو كنت على الجانب الآخر من القسمة الوطنية، فأنت مستبعد ويمكنك أن تتوقع منا أن نلاحقك.
ربما كان هذا أيضًا هو السبب في أنني هذه المرة، ولأول مرة، كنت متخوفًا من الذهاب إلى إسرائيل، ولماذا كان جزء مني سعيدًا بالمغادرة. لقد تغير البلد بطرق مرئية وخفية، بطرق ربما تكون قد رفعت حاجزًا بيني، كمراقب من الخارج، وبين أولئك الذين ظلوا جزءاً عضوياً منه.
لكنّ جزءًا آخر من مخاوفي كان يتعلق بحقيقة أن وجهة نظري إزاء ما كان يحدث في غزة قد تغيرت. في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، كتبت في صحيفة نيويورك تايمز: "بصفتي مؤرخًا للإبادة الجماعية، أعتقد أنه لا يوجد دليل على أن إبادة جماعية تحدث الآن في غزة، على الرغم من أنه من المحتمل جداً أن تحدث جرائم حرب، وحتى جرائم ضد الإنسانية. (...) نحن نعلم من التاريخ أن من المهم للغاية التحذير من احتمال حدوث إبادة جماعية قبل حدوثها، بدلاً من إدانتها في وقت متأخر بعد حدوثها. أعتقد أننا ما نزال نملك هذا الوقت".
لكنني لم أعد أعتقد ذلك. بحلول الوقت الذي سافرت فيه إلى إسرائيل، كنت مقتنعًا بأنه على الأقل منذ الهجوم الذي شنه جيش الدفاع الإسرائيلي على رفح في 6 أيار (مايو) 2024، لم يعد من الممكن إنكار أن إسرائيل متورطة في جرائم حرب منهجية وجرائم ضد الإنسانية وأعمال إبادة جماعية. لم يقتصر الأمر على أن هذا الهجوم ضد آخر تجمع لسكان غزة -معظمهم نزحوا وشُردوا مسبقًا مرات عدة على يد جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي دفعهم الآن مرة أخرى إلى ما تسمى بالمنطقة الآمنة- أظهر تجاهلاً تاماً لأي معايير إنسانية. لقد أشار بوضوح أيضًا إلى أن الهدف النهائي لهذا المشروع برمته منذ البداية هو جعل قطاع غزة بأكمله غير صالح للسكن، وإضعاف سكانه إلى درجة أنهم إما سيُفقدون أو يبحثون عن جميع الخيارات الممكنة للفرار من المنطقة. وبعبارة أخرى، فإن الخطاب الذي أطلقه القادة الإسرائيليون منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) يترجَم الآن إلى واقع ملموس -بالتحديد كما تقول اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية للعام 1948، أن إسرائيل تتصرف "بنية التدمير، كلياً أو جزئياً" للسكان الفلسطينيين في غزة، "على هذا النحو، عن طريق القتل، أو التسبب في أضرار جسيمة، أو إحداث ظروف معيشية تهدف إلى تدمير المجموعة".
كانت هذه قضايا لم أستطع مناقشتها إلا مع حفنة صغيرة جداً من الناشطين والباحثين والخبراء في القانون الدولي، وليس من المستغرب أن أكون قد ناقشتها مع مواطنين فلسطينيين في إسرائيل. أما خارج هذه الدائرة المحدودة، فإن مثل هذه التصريحات بشأن عدم شرعية الأعمال الإسرائيلية في غزة هي لعنة في إسرائيل. حتى الغالبية العظمى من المتظاهرين ضد الحكومة، أولئك الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، لن يقبلوها.
منذ عودتي من زيارتي، كنت أحاول وضع ما اختبرته هناك في سياق أكبر. الواقع على الأرض مدمِّر للغاية، والمستقبل يبدو بالغ القتامة، حتى أنني سمحت لنفسي بالانغماس في بعض التاريخ المضاد للواقع والاستمتاع ببعض التكهنات الآملة حول مستقبل مختلف. أسأل نفسي، ما الذي كان سيحدث لو أوفت دولة إسرائيل المنشأة حديثا بالتزامها بسن دستور يستند إلى إعلان استقلالها؟ نفس ذلك الإعلان الذي نص على أن إسرائيل "ستقوم على الحرية والعدالة والسلام كما تصورها أنبياء إسرائيل؛ وسوف تكفل المساواة التامة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس؛ وتضمن حرية الدين والضمير واللغة والتعليم والثقافة؛ وتحمي الأماكن المقدسة لجميع الأديان؛ وتكون وفية لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة".
ما التأثير الذي كان يمكن أن يُحدثه مثل هذا الدستور على طبيعة الدولة؟ كيف كان سيخفف من تحول الصهيونية من أيديولوجية تسعى إلى تحرير اليهود من انحطاط المنفى والتمييز ووضعهم على قدم المساواة مع دول العالم الأخرى، إلى أيديولوجية دولة تقوم على القومية/ العرقية، وقمع واضطهاد الآخرين، والتوسع والفصل العنصري؟ خلال السنوات القليلة المفعمة بالأمل التي شهدتها عملية أوسلو للسلام، بدأ الناس في إسرائيل يتحدثون عن تحويلها إلى "دولة لجميع مواطنيها"، اليهود والفلسطينيين على حد سواء. ووضع اغتيال رئيس الوزراء رابين في العام 1995 حداً لهذا الحلم. هل سيكون من الممكن لإسرائيل أن تتخلى عن الجوانب العنيفة والإقصائية والمتشددة والعنصرية المتزايدة لرؤيتها كما يعتنقها الآن العديد من مواطنيها اليهود؟ هل ستتمكن يومًا من إعادة تصور نفسها كما تصورها مؤسسوها ببلاغة -كدولة قائمة على الحرية والعدالة والسلام؟
من الصعب الانغماس في مثل هذه الأوهام في الوقت الحالي. ولكن، ربما على وجه التحديد بسبب الحضيض الذي يجد الإسرائيليون أنفسهم فيه الآن، والفلسطينيون أكثر بكثير، ومسار الدمار الإقليمي الذي حدده لهم قادتهم، أدعو الله أن ترتفع الأصوات البديلة أخيرًا. لأنه، على حد تعبير الشاعر إلدان، "هناك وقت يزأر فيه الظلام، ولكن هناك فجر وإشراق".
*عومير بارتوف Omer Bartov: (من مواليد إسرائيل في العام 1954) مؤرخ إسرائيلي أميركي. أستاذ صموئيل بيسار لدراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة براون، حيث يدرّس منذ العام 2000. وهو مؤرخ للهولوكوست ويعد من السلطات الرائدة في العالم في مجال الإبادة الجماعية. تصفه مجلة "ذا فوروارد" بأنه "أحد أبرز علماء الحياة اليهودية في غاليسيا". خدم في الجيش الإسرائيلي خلال حرب البلاد في العام 1973، ضد العديد من جيرانها. خلال حياته المهنية التي استمرت أربعة عقود، كتب العديد من الكتب والمقالات التي تدرس نظام هتلر، مع التركيز بشكل خاص على كيفية عمل الأيديولوجية النازية في مؤسسات مثل الجيش الألماني.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: As a former IDF soldier and historian of genocide, I was deeply disturbed by my recent visit to Israel