الغد
لأول مرة منذ العام 1989 يبدي الشارع الأردني مستوى مرتفعا من الرضا عن مجريات ومخرجات الانتخابات البرلمانية. فهناك إجماع على أن الانتخابات الأخيرة خلت من أي تدخل رسمي، وتمت بقدر عال من النزاهة مقارنة مع ما أطلق في مواسم انتخابية سابقة من اتهامات بحدوث تدخلات ما.
الملاحظ أن الغالبية أبدت رضاها، ومنها كثير من المترشحين ممن لم يحالفهم الحظ. غير أن ذلك لا يعني الرضا المطلق، فهناك منسوب مرتفع من النقد لآلية احتساب الفوز المعتمدة بقانون الانتخاب، وتحديدا النص على ربط الفوز باجتياز العتبة أولا، ومن ثم بمجموع أصوات القائمة، وصولا إلى مجموع أصوات المترشح.
"الحسبة"، وفقا لمخرجات العملية، أفضت لفوز العشرات من المترشحين رغم حصولهم على عدد أصوات تقل عن آخرين لم يحالفهم الحظ. وإخفاق آخرين زادت أصواتهم عن أصوات الفائزين. والسبب في ذلك اعتماد نظام القوائم المفتوحة في الدوائر المحلية والمغلقة في الدوائر العامة.
حالة الرضا من جهة، والنقد من جهة أخرى التقتا مع نقد للحكومة بمجرد الكشف عن اسم رئيسها، وتكليفه من قبل جلالة الملك، وقبل الإعلان عن تشكيلها رسميا، حيث كلف جلالة الملك مدير مكتبه جعفر حسان بتشكيل الحكومة وفقا لبرنامج ركز على الجوانب الاقتصادية والسياسة الداخلية بقدر كبير من التفصيل. غير أن وتيرة النقد تلك لم تبتعد كثيرا عما اعتاد عليه الشارع الأردني لكل حكومة، والذي يرى في الأوضاع الاقتصادية السائدة مشكلة يصعب حلها، ويرى أن الحكومات المتعاقبة عاجزة عن استنباط حلول خارج إطار التحصيل المباشر من جيب المواطن للحد من مشاكل البطالة والفقر وارتفاع الضرائب، وأن وصول بعض شخوصها الى مواقع التشكيل الحكومي يزيد من تعقيدات المشكلة.
ما ساعد في تكريس تلك الحالة وطرحها مجددا في وجه الحكومة قبل أن يتشكل القرار الذي اتخذته الحكومة السابقة قبل يومين من استقالتها، والذي يقضي برفع أسعار السجائر، والسيارات الكهربائية. ومطالبة الحكومة، قيد التشكيل، بوضعه على سلم أولويات الإلغاء.
الأجواء السائدة على مستوى المملكة، تشبه إلى حد بعيد أجواء عام 1989، حيث جرت الانتخابات في أعقاب "هبة نيسان" التي حدثت في محافظات الجنوب على خلفية رفع أسعار المحروقات والخبز. وأشرف على إجرائها بمنتهى النزاهة والحياد، ووفقا لقانون يسمح بتعدد الأصوات للناخب، الشريف زيد بن شاكر، وأفرزت مجلسا يذكره الأردنيون بأنه الأقوى في التاريخ الأردني الحديث ومنذ عودة الحياة البرلمانية عام 1984.
الشارع هذه الأيام يرى أن انتخابات 2024 شبيهة بتلك الانتخابات من حيث المجريات والمخرجات، وأن المجلس المنتخب حديثا سيكون قويا لدرجة قريبة جدا من مجلس 1989. والسبب في ذلك ارتفاع عدد النواب المعارضين في التشكيلة الجديدة، ومن بينهم نواب جبهة العمل الإسلامي حيث حصدت الجبهة 32 نائبا، من مجموع أعضاء المجلس وبنسبة زادت على 23 بالمائة، يضاف لهم عدد غير معروف حتى الآن من المعارضين من تيارات وأحزاب وأشخاص منفردين.
المقارنة مع مجلس 1989 تشير إلى أن التيار الإسلامي"الأخوان" حصدوا في ذلك المجلس 23 مقعدا، من أصل 80 مقعدا، وبنسبة زادت على 28 بالمائة. في حين أشغل المعارضون من كافة التيارات "إسلامية وقومية ويسارية وغيرها" 33 مقعدا، وبنسبة زادت على 41 بالمائة.
النسبة المرتفعة للمعارضة في المجلس الجديد تجوّد الأداء البرلماني وتحد من هيمنة السلطة التنفيذية على "التشريعية"، وترفع من مستوى الرقابة، وتعظم العملية التشريعية، وهذا ما ينتظره العامة ممن تعاملوا مع مجالس سابقة رفعت شعار "الشراكة" بين السلطتين كتسمية مخففة لما تم من هيمنة في الكثير من الأحيان. يؤشر على ذلك ما تسرب عن نواب جبهة العمل الإسلامي رغبتهم البقاء في صفوف المعارضة وعدم المشاركة في الحكومة.
من أبرز العناوين في هذا السياق، حرص جلالة الملك على أن تسير عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي ضمن خطط وبرامج مدروسة، حيث ضمن كتاب التكليف الذي وجهه للرئيس المكلف مهام الحكومة في هذا السياق بشكل تفصيلي وموسع وشامل لكافة المجالات وضمن آليات خاضعة للقياس والمتابعة. كما يساعد في ذلك أن الرئيس المكلف ليس بغريب عن الأجواء الحكومية وهو عضو فاعل في المطبخ الاقتصادي منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، وأنه قريب جدا من جلالة الملك ومديرا لمكتبه. وأنه أجرى مشاورات مع العديد من الأحزاب حول متطلبات المرحلة والعلاقة بين الحكومة والأحزاب من جهة، والبرلمان من جهة اخرى فيما يتعلق بمجالات التحديث السياسي، وسط تأكيدات على خصوصية المرحلة.
المشاورات مع الأحزاب لم تدخل في مجالات التشكيل الحكومي، ومشاركة الأحزاب في الحكومة، وإنما في الخطوط العامة والتفصيلية للسياسات العامة ومتطلبات المرحلة. وتبقى النقطة المهمة في السياق، تفاصيل التشكيلة الحكومية، ومدى قدرتها على التعاطي مع الملف الداخلي بكل تفاصيله.
ملف القضية الفلسطينية الذي تضعه الدولة الأردنية في رأس أولوياتها، بحكم انعكاساته على الأردن، وما يتبع ذلك من مخرجات تؤثر بشكل مباشر على الوضع الأردني والممارسات الإسرائيلية التي ارتقت إلى مستوى التهديد للأمن الأردني، فهو مرتبط بالموقف الواضح المعلن من قبل جلالة الملك والدبلوماسية الأردنية، وهو موقف ثابت لا يتغير بتغير الحكومات. ومثل ذلك مساندة الشعب الفلسطيني التي تدخل ضمن برامج الدولة الأردنية سواء أكانت مساندة سياسية أو إنسانية وهي معروفة ومعلنة، وتحظى باحترام العالم أجمع.